جمال محمد إبراهيمتلـك الجـمـلة المُربكة هي التي بدأ بـها الأديـب الروائي “الـسّــوداني المصـــري الهولنــــدي” الرّاحل رءوف مسعد، أول ســطور أوّل رواية له الأولى : “بيضة النعـام”. “إسمي جوقة . .لأننا كثيرون”. قرأتُ روايته تلك قـبـل سنوات خلتْ وقد تصفّحتها بمتعة زائدة غير أني لم أقف عند جملته المربكة التي أشرت إليها.. رواية الأستاذ رءوف مســعد الـتـي لا تشــبـه غيـرها مـن الروايات، لا في اسلوبها ولغـتها، ولا في حبكتها ومحتـواها. إنّ الإمتاع عنـدي هو لبّ الكتابة الروائية، وما يليه أنظـره وأتفهّـمه.كنت قد عاهدتُ نفسي أن أعد مخطوطة أسجّل فيها شيئا مما تبادلناه ، وأدمج فيها بعض ما بثه في صفحته على الانترنت، إذ هو شغوف بتسجيل تفاعلاته مع أصدقائه، القريبين والبعيدين على حدٍّ سواء. لكني فوجئت بنبأ رحيل رءوف، فقد انقطع التواصل بيننا لسنوات. غير أنَّ حماسي لم يفتر لاعداد مخطوطتي عنه، وكنت أزمع أن تشكّل مفاجأتي له سانحة تعيد التواصل بيني وبينه من جديد . رحل بعيداً عن اية مفاجئات ، ولم يرحل عن هولندا وحدها وعن أصدقائه هناك، بل رحل عن الدنيا مرة نهائية.أقول لكم ماذا كتبت عن ابداع رءوف مسعد. .حقيقة لم تبرح حبكة رواية مسـعد “بيضـة النّعـام” ذاكرتـي برغم الســنوات الطـويلة التي مضت منـذ أن طالعتُ بشــغفٍ وولـه صفحــاتها البـديعة. هي في مكتبتي أقــرب إلى يدي، أراجعـــها بين الفـينة والأخرى، وكأنّي أعـود إلى مراجـعٍ استقى منها معلومـة، أو استوثق فيها من حقيقة علمية . قال رءوف عن نفسه أنّهُ: “جوقة. . لأنهــم كثيـرون”. هو ليس واحدٌ يتفاعل مع “جـوقـة” وذلك هو الطبيعي ، لكنه جــماعة يتفاعل بحالـهـا مع الجماعة.لفتت نظري تلك الجملة في مفتتح الرواية لكني لم أنشغل بها، بل تجاوزتها عجــلاً من حرصٍ ألّا تفـلت منِّي خيـــوط الإمتـاع والإدهـاش. صادفتُ مقــالاً بتاريخ 27 مارس 2022م، في النسخة العربية من صحيفة “الإندبنــدنت” البريطانية، بقـلم أديـبٍ ناقــدٍ تونسي اسمه كمال العـيّـادي، تنـاول فيه ســيرة رءوف مسعد، وروايته تلـك . أعادني ذلــك الأديب التونسي ، إلى تلك الجملة الافتتاحيــة في رواية “بيضـــة النعــام”، وقـد وقـف عـنـدها، إذ كانت هي الجملة التي قادته لإكمال قراءة رواية مسعد كلهـا.رجـعــتُ أنا إلى أول ســطر فـي أصل الرواية، بعد أن ذكَّرتـني إشـــارة الأديب التونسي الموحـيـة عن تـلـك الجمــلة الأولى، فوجــدتُ له الـعـذر كــلـه في التولَّه مِثـلـي بقـراءة الممـتع من روايةٍ، تحتشـد بغـرائب الوقـائع، وتفيض بالكتـابة البكر عن تجارب حياتية، بما يزيد الافـتتان بالإبهـــار الذي في ثنـاياها، فضـاعـف ذلك من أثر الإثارة، التي فعلــتْ بـنا الأفاعيل، أنا وصديقي الأديب التونسي روايــة “بيضـة النعــام” تلك.تذكّـــرك رواية “بيضـة النعـام” على الفـور، بروايـة أقــدم تاريخــاً في الأدب الروائي العربي، جـاءتْ من كاتب مغربي هو محمد شـكري في روايـتـه الأشهر” الخـبــز الحافـي”، لكـنـك لا ترى تأثيراً لافـتاً لمحمد شـكري في كتـابة مسعـد.لقد تميّز نسيج مســعد بحرفـيـة يتسـيّدها قـلـمٌ بارعٌ في الوصـف ، ولســانٌ قـال في وصــفه الأديــب كمال العيــادي أنَّه “ســـليط” ، وأؤكّـد لـك هنا أنه يكاد أن يصيـب الموصوف في مقتل. لمسعد أسلوب ميّزه بنصاعة في اللغة وقـدرة ذكية في مزجــها بروح اللهجة العامية. تتسرّب التراكيب العامية لتخالس الفصيح وتمازجها دون عناء ولا حذلقة. .!الملفـت في كتابات مسـعد هـو هـذه “الكثرة ” التي جاءتْ في جمــلـتـه الافتتاحية لروايتــه تلك. هي ليست كثرة في المجموع ولا في الـعــدد، بل هي كثرة في ثراء التنوّع، وفي تماســك التبايـن. وفي فسيفساء المحتوى.لو نظرتَ إلى الرّجل سـتجد في شخصه، راهــباً متدثراً بلبوسٍ لا يخفي انطلاقا متحرّراً، ولا يستر غرائبية مذهلة . ســتـرى في “بيضة النعـام” خلـيعـــا مستترا وراء سـياسـي، ومتديّناً والغـاً في الغواية ، ولكنه يقول لك مثلما قال الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي عن نفسه : “أنا غريقٌ في الإثم ولكني ذاهبٌ إلى الجـنّـة. .”سترى أديباً روائياً هـو بالفعل جماعة من الشخصيات، تلاقتْ جميعــها في فـتى وُلــد في السّــودان، ونشـأ في كـنف بيئة كـنســية مع والـده القسيس المصري الأصل، وتخــرّج من الجامعة في مصـر، ثم درس وتخصّص في الإخـراج والمسرح، في شرق أوروبا ومارسـه تجريباً في العراق ، ثم ها هـو يقيم في هولنـدا ثمّ يموت في أرضها المنخفضة، وهو السامي علوّاً بإبداعه . أتكون تلك هي عبقرية “كثرة التنوّع” التي قصدَ حينَ حدّث عن “الجـوقـة”. إنّي وقد أسبغتُ عليه صِـفة الأديب ، لعله لن يُعجب بتلك الصِّفة ، فهيَ قـد لا تناسب التنوّع الذي عليه شخصيته الفــريدة.قضى ربع صباه في أم درمان في السودان، وربعه الثاني في كردفان ، وربعه الثالث فقضــاه في اجتــهاد سياســي ومســرحي مميَّز في مصر وفي العراق، ثم ربعه الأخير في إبداع كتابي يصدر من حيث أقام رسمياً في هولنــدا التي اعتمدها منفىً اختاره لنفسه ولأســرته . كنتُ أكتب هذه السطور وقت كان ينـاور بثمانيـنـه في المنــافـي، وبوعــدٍ مجــانـي فـيما هــو مستمتع بما بشـبه “ســبـتية” أكاديمــية في جامعة الحيــاة. كنّا ننتظر أن قـد ُحظى من قلمه بعـدها، بإبــداع ثري يتسلّـل إلينا نحن قراء رواياته من الجــوقـة التي زعم أنها ســكنتْ شخصه، إذ هــو أديب ليس فرداً، بل جماعة أو “جـوقـة”، أو عـدّة شخصيات مقيمة في ذهـن أديب ، كما حدّث في روايتـه الأولى.تجد الإبهار في كتــابات مسـعـد الروائيــة مثلما تجد التوثيـق. ثمَّة مســـوّدات من مذكرات وقصاصـات لمشروعات قصص وروايات ، عن تجــارب ومجـاهدات ورؤىً، في السياسـة كما في العشــق، تأتيك من كاتب هو جماعة متعدّدة المشـارب اسمه رءوف مسعد تجد من قلـمه الرَّصانة التي قـد تدفع بصاحبها للمشي حـذراً خائفاً تحت ظلّ حــائطٍ ، مثلما تجــد الانطــلاق والتجريب حـرّاً طـليـقـاً، يوم لا ظلّ إلا شــعاع شــمـس حـارق وأصابع تمسك بقلـمٍ سـاخن.كنتُ قد التقـيـته على سـنواتي في بيروت، ســفيرا لبــلادي هـناك، بيــن 2007 و2009. ربما كانت بيروت عنده محطة لاسـتعادة ذكريات قديمة ، أو هي سـانحة متجدّدة أتاحـهـا له وقتها الصحفي الرّاحل طلال سـلمان، الذي رحل عام 2023 بحزنه بعد إغلاق صحيفـته “السّــــفير”، وقد تعثرت اصداراتها قبيل رحيله بسنوات قليلة. جاء مسعد زائرا بيروت ذلك العام ليجرّب حظه في الإقامة في حواضن الثقافة العربية ، وساحات إبداعها في لبــنـان، بعيداً عن منافيه الاختــيارية في أوروبا. علــمتُ أنه جـاء للتعاون مع الصحــيـفة البيروتية التي يديرها طلال سلمان . في بيــروت ، قــدّرتُ بالتأكـــيـد أنْ ســـيجـد مسـعد الهــواء الــذي ســيفـتح شــهيته للكـتـابـة الابداعية، لكن لم تكن “الســفير” وقتها في أفضل حالاتها .زارني في مكتـبي صباح ذلك اليــوم الشــتوي، فــشخصَ أمامــي شــابٌ عجـــوز ، بســترة شــتائـيـة وبنطلـون تشــدّه حمّالات إلى كتفيه ، لـم أرَ لها داعــيا فالرجل متوسّط القـامـة ناحـل البـدن سـيتخطاه البـرد فلن يراه من نحـوله، ويا للتشبيه الذكي الذي اســتلفتـه لك من المتنــبي وصـفاً للنّحـول المُفـرِط. أعدتُ النظر مبتسماً، فما رأيـتُ مـن حاجةٍ لتلـك الحمّــالات، أو لتلـك الســتـرة الصّوفية . رءوف مســـــعـد: وجـــهٌ صــافٍ وابتسـام مشـرق لا غروب له، تزيِّنـه لحـيـةٌ خفـيــفـة حول الذِّقن.. تبادلـنا حديـثا مقتضبا عن تجربته الإبداعـيـة ، وعن روايــة “بيضة النعامة”، ثمّ عــن روايتـــه الجــديدة و التي صدرت قتذاك بعنــوان: “إيثـاكـا”.سـعدتُ يومها بصحبة أديب وروائيٍّ قديرٍ لا يشــبه غيره من كتّــاب الروايـة. أهـــداني مسـعد بضعة نصوص تجريبية، أفاض في حديثـه عـنها، مبيّناً أنها حملت أصداءً من تجـارب شخصية له، ومِن رحــلاتٍ التـقى فـيها بنمـاذج لشخصيات مميزة، تفاعل معها وتفاعلت معه. ولربَّما وجدتْ لنفسها مســـاحة في كـتـاباتـه الابداعية القــادمـة. حكى لي عن جــولة له في فلسـطين، وعن غــزّة عـبـر رفــح. في النُّصوص التي أهداني إياها وألمح لي أنّهُ ينشـر أيضاً في الشبكة العنكبوتيــة، طالعـتُ مجمــوعة من بدايات لمخطــوطات يمكــن البناء عليها لمشـاريع روائيـة قد تخرج من قلمه البريع لو أمهلته الأيام في عمره. أدهـشـتني في إحدى نصوصــه هنا، قصاصات جريئـة عن زيارته لقطاع غـزّة ، وعن السـُّمر القاطنين حَـي “السُّــودانيـة” في “غـزة” والذي لا يعرف السُّــودانيون عنه كثير شــيء، إلا ربما ما تواتر في قنوات الأخبار عن مجريات حرب غزة هذه الأشــهر الأخيرة . .حدّثني مســعدُ وقتها إنه اسـتقرَّ في هولـنـدا . لعلّ الأجــواء هناك هيَ التي فتحت له نوافـذ إبـداعٍ حـرٍّ لا تقـيـّده موانع، أو تحصي حــروفه رقـابة. لن يتحمَّل الأديب وهو يتوغّل في ســنواته الثمانين ، أيَّ كتم لأنفاسـه وهو الذي جرّب السّجون والمعتقلات سنين عددا . طالـعـتُ نصوصـه التي أهدانيها فرأيتهـا نصوصاً مكتمـلة في نقصانها، مجزأة كقصاصاتٍ متكاملة في فسيفسائها . قرأتُ في متونها بعض الذي تجــاوز بجرأته أطـــر الكتــابة الرِّوائية التقليدية ، واقتربت مما قـد يشـبه كتابة السّــجية الحُـرة. ذكـرتــني جرأة بعــض نصوصـه شـيئاً ممّـا جـرى من قـلــم الكاتب الأمريكــي الجريء “هنــري ميـلـــر” في روايـتــيـه الصّــاخبتيـن وقد فرّ أكثر الناشرين منهما فرار الصحيح من الأجرب: “مـــدار السّـرطان” و”مدارالجـــدي”.لقـد برع “ميلـر” في الكتابة المشوّقة، وإن تجـاوز بإيراده ألفاظا إباحية صادمة، حــدوداً يتردَّد محافظون كثيراً في الوقوف عنـدها. غير أنَّ الصَّرامة الإبداعـية لم تفــارق “ميـلـر”، فــما اسـتنكف أدباء في الشّـام من ترجمة بعض أعماله على علَّاتها الإباحية تلـك. أمّا مسعد ففـيه شيءٌ من “هــنري ميلـر”، بل وأكثر ممَّا عـند المغربي محمد شـكري. .صديقنا الرّاحل رءوف مســعد، هـو الذي ظلَّ طيلة حياته يميّز تهجية اسـمه وكتابته على هــذا النحـــو الذي كتبته لك هنا. ولعلّ في اقـتـراب نصوصه إلى ما يشـبه روح كـتابات “هنـري مـيلــر” كما ذكرنا، لكنــه لا ينشـغـل بالإباحـي كانشغاله ، بل هــو معنيٌّ بمــا يشــكّل وظيــفـة في العـمل الـروائي الذي يبدعـه، فيحـمِّـله مدلولات أعـمق من مُجــرّد الألـفـاظ المُنكـرة، أو الأفـعــال المُستهجنة .غفر الله لكاتبنا السُّوداني المصريّ الهولندي المبدع “رءوف مسعد”. وما كان قصد من كتابتي هنا، إلا العـزاء في رحيل ذلك المبدع ، وإنّي لعازم على إكمال مخطوطتي الخاصَّة عن حياته وكتاباته، ولنا أن نسترجع إبداعـه قويا إلى الذاكــرة العـربيــة، والمصرية والسودانيـة، إذ له سهم ابداعي في كل تلكم الدوائر الثلاث، رحمه الله. .* فقرات من كتاب كنت أردت أن أفاجئ به صديقي الرّاحل رءوف مسعدالقاهرة – 18 أكتوبر 2025 The post “إسْـمي جَـوْقـة.. لأنّنـا كثيروْن” رءوف مسعد: وداعـاً* appeared first on صحيفة مداميك.