مهدي داود الخليفةعندما اعتلى رئيس الوزراء الإيرلندي، مايكل مارتن، منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 سبتمبر 2025، لم تكن كلماته عن السودان عابرة أو بروتوكولية، بل جاءت مشحونة بالعاطفة والصدق، متجاوزة حسابات السياسة الضيقة. فقد وصف الحرب السودانية بأنها “كارثة خطيرة تهدد حياة الملايين واستقرار الإقليم”، وأدان بقوة جرائم الحرب والانتهاكات الواسعة، داعياً إلى توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل كافة أنحاء السودان.لكن ما يجعل صوته أكثر تميزاً هو أنه ينتمي إلى شعب خبر معنى الاستعمار، وتذوق مرارات الحرمان، وتحمّس قبل أكثر من قرن لثورة السودان الكبرى بقيادة الإمام المهدي. فكلمات مارتن لم تكن مجرد تضامن ديبلوماسي، بل امتداد لذاكرة تاريخية طويلة تربط بين الأيرلنديين والسودانيين في طلب الحرية ومقاومة القهر.في خطابه المؤثر، لم يكتف مارتن بسرد أرقام القتلى والنازحين – أكثر من 150 ألف قتيل و12 مليون مشرد – بل فضح خذلان المجتمع الدولي للسودان، وندّد بالصمت تجاه العنف الجنسي الممنهج ضد النساء والأطفال، مؤكداً أن “الطفل في السودان له نفس الحق في حياة آمنة ومستقرة مثل أي طفل في العالم”.لقد دعا إلى وقف إطلاق النار فوراً، وإلى دعم جهود مبعوث الأمم المتحدة، رمطان لعمامرة، في إحياء مسار السلام. كانت لهجته واضحة: مأساة السودان ليست نزاعاً بعيداً، بل امتحان لإنسانية العالم.ما يضفي على خطاب مارتن معنى مضاعفاً هو الذاكرة التاريخية للإيرلنديين مع السودان. ففي القرن التاسع عشر، حين اندلعت الثورة المهدية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي، وجد فيها القوميون الإيرلنديون صدىً لنضالهم ضد بريطانيا.* جي. جي. أوكيلي، السياسي القومي البارز، حاول السفر إلى السودان لمقابلة المهدي، وكتب عنه كبطل إصلاحي وروحي يقود ثورة تحررية.* الصحافة الإيرلندية القومية، مثل Waterford Daily Mail وLimerick Reporter، مجدت المهدية بوصفها معركة للحرية، بل قارنتها بجهاد المسلمين الأوائل.* في فبراير 1884، نشرت صحيفة United Ireland مقالاً بعنوان “أسرع أيها المهدي” (Speed the Mahdi)، أشادت فيه بانتصارات السودانيين وتمنت أن يلقى غردون نفس مصير هكس. المقال أحدث ضجة في البرلمان البريطاني.* بل إن الجماهير الإيرلندية هتفت في شوارع مدنها: “Up the Mahdi” عند زيارة ولي عهد بريطانيا (الملك ادوارد السابع لاحقاً)، ما سبب صدمة للعائلة المالكة.الأمر تجاوز الصحافة والنخب، ليصبح جزءاً من الثقافة الشعبية الأيرلندية. حتى أن بعض الزعماء القوميين مثل تشارلز بارنيل وويليام أوبراين لُقّبوا بـ”المهدي الأيرلندي”، إشارة إلى زعامة تحررية تمشي على خطى الثورة السودانية.ما يكشفه هذا الترابط العابر للزمان والمكان هو أن الثورة، بطبيعتها، لغة إنسانية تتجاوز الحدود. فقد وجد الأيرلنديون في المهدية صورة لنضالهم من أجل الاستقلال، ووجد السودانيون في موقف إيرلندا اليوم امتداداً لذاكرة قديمة من التعاطف والتضامن الانساني .خطاب مايكل مارتن لم يكن مجرد ديبلوماسية رسمية، بل هو عودة الروح لذاك التضامن التاريخي. إنه يذكّر السودانيين أن العالم لا يزال يرى قضيتهم، وأن دماءهم ليست بلا قيمة. كما يذكّر الأيرلنديين أنفسهم أن حماس أجدادهم للمهدي لم يكن وهماً، بل جزءاً من مسيرة إنسانية مشتركة ضد الظلم.بين “الامام الثائر ” و”مارتن الرئيس ” يمتد جسر طويل يربط القرن التاسع عشر بالقرن الحادي والعشرين. جسر قوامه الحرية، والكرامة، والعدالة. السودانيون اليوم مدعوون إلى استعادة تلك الذاكرة الملهمة التي جعلت شعوباً بعيدة تهتف باسم مهديهم، وأن يجدوا في كلمات رئيس وزراء إيرلندا اليوم طاقة جديدة لمقاومة الحرب والانقسام.إن مأساة السودان ليست مجرد شأن داخلي، بل قضية إنسانية عالمية. وإذا كان الأيرلنديون قد هتفوا بالأمس “عاش المهدي”، فإنهم اليوم، عبر مايكل مارتن، يهتفون: “عاش السودان الحر، وعاشت العدالة الدولية”.The post مابين السودان وإيرلندا: من ثورة الامام المهدي إلى دعوة مايكل مارتن للعدالة الدولية appeared first on صحيفة مداميك.