ناظورسيتي: متابعة قدّم رئيس الوزراء الفرنسي سِبَاستيان لوكورنو استقالته إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، بعد أقل من 24 ساعة على إعلان تشكيل حكومته الجديدة، في خطوة فُهمت على نطاق واسع على أنها نتيجة مباشرة لأزمة ثقة سياسية واقتصادية عميقة تعصف بفرنسا منذ أكثر من عام. وقال لوكورنو في تصريح مقتضب عقب استقالته إنه كان يسعى إلى “خريطة طريق توافقية لإخراج البلاد من أزمتها”، غير أن مساعيه اصطدمت بمعارضة قوية داخل البرلمان وخارجه. فقد أثارت التشكيلة الحكومية الجديدة موجة انتقادات حادة من مختلف الاتجاهات السياسية، التي رأت أنها استمرار للنهج السابق من دون أي تجديد أو انفتاح على القوى الصاعدة. من جانبها اتهمت المعارضة اليمينية واليسارية لوكورنو بتشكيل “حكومة بلا رؤية”، معتبرة أن الإليزيه أعاد إنتاج نفس التوازنات التي فشلت سابقًا في تمرير الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. كما انتقد نواب من المعسكر الرئاسي ذاته اختيار بعض الوزراء الذين يواجهون قضايا فساد، وعلى رأسهم رشيدة داتي، التي احتفظت بمنصبها كوزيرة للثقافة رغم متابعتها القضائية. وإضافة لما سبق، تأتي استقالة لوكورنو أيضًا في سياق برلمان منقسم بشدة منذ الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس ماكرون العام الماضي. فقد أفرزت صناديق الاقتراع ثلاث كتل كبرى — اليسار واليمين والوسط — من دون أن تحظى أيٌّ منها بأغلبية واضحة، ما جعل تمرير أي تشريع، وخاصة مشروع الميزانية، شبه مستحيل من دون تحالفات هشة ومؤقتة. (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); وتفاقمت الأزمة عندما أعلن لوكورنو أنه لن يستخدم المادة 49.3 من الدستور، التي تسمح للحكومة بتمرير القوانين دون تصويت البرلمان. فبينما رأى البعض في موقفه التزامًا بالديمقراطية، اعتبره آخرون مجازفة سياسية حرمته من أي وسيلة لتجاوز الانسداد البرلماني. على الصعيد الاقتصادي، تواجه فرنسا أزمة مالية غير مسبوقة. فقد أظهرت بيانات رسمية أن الدين العام تجاوز عتبة 110% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصبح ثالث أعلى معدل في الاتحاد الأوروبي بعد اليونان وإيطاليا. كما رفضت المعارضة تمرير ميزانية تقشفية كان لوكورنو ينوي تقديمها، معتبرة أنها “تضرب الفئات الوسطى والضعيفة” في ظل تراجع القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار. وأدى هذا الضغط المالي إلى تآكل هامش المناورة السياسي أمام الحكومة الجديدة، إذ وجدت نفسها محاصرة بين التزاماتها الأوروبية من جهة، وغضب الشارع والبرلمان من جهة أخرى. وتكشف استقالة لوكورنو عن مأزق أعمق في النظام السياسي الفرنسي، يتمثل في صعوبة الحكم في ظل غياب أغلبية برلمانية، واستمرار حالة الاستقطاب التي تعصف بالمشهد الحزبي منذ انتخابات 2022. كما تُعدّ هذه الاستقالة الثالثة خلال عام واحد، بعد سقوط حكومتي ميشال بارنييه وفرنسوا بايرو، ما يضع الرئيس ماكرون أمام تحدٍ متزايد لإيجاد شخصية قادرة على إعادة بناء الثقة بين السلطة التنفيذية والبرلمان. ويرى مراقبون أن الأزمة الحالية ليست سوى عرض لأزمة بنيوية في الحياة السياسية الفرنسية، حيث فقدت الأحزاب التقليدية ثقلها التاريخي، بينما لم تنجح القوى الجديدة في تقديم بدائل مستقرة، ما يجعل كل حكومة جديدة مهددة بالسقوط قبل أن تبدأ فعليًّا في العمل. ويذكر أن استقالة رئيس الوزراء الفرنسي تأتي في سياق آلية دستورية تُعرف بحجب الثقة، حيث يمكن للبرلمان إسقاط الحكومة إذا صوتت أغلبية النواب ضدها بعد تقديم برنامجها وخططها أمام الجمعية الوطنية. وفي ظل الانقسامات الحادة في البرلمان الفرنسي الحالي، كان من المرجح أن تواجه الحكومة الجديدة صعوبة بالغة في الحصول على دعم كافٍ، ما يجعل من الاستقالة خيارًا استباقيًا لتجنّب التصويت على حجب الثقة والإذلال السياسي، ويتيح للرئيس ماكرون فرصة إعادة تشكيل الحكومة بعيدًا عن مواجهة مباشرة مع البرلمان.