إلا حل القوات المسلحة فهو كبيرة

Wait 5 sec.

د. عبد الله علي إبراهيمانعقد الإجماع بين جماعات “لا للحرب”، ومنها “صمود” بزعامة عبدالله حمدوك، على حل القوات المسلحة ليومنا. فصورتها في إعلان أديس أبابا (2 يناير/كانون الثاني 2024) الذي تواثقت فيه مع قوات الدعم السريع هي أنها مجرد مفردة في “تعدد الجيوش” التي تصم السودان بجانب الدعم السريع ومسلحي حركات دارفور. ودعت إلى حلها جميعاً في جيش قومي مهني واحد.حيثيات هذه الجماعات لحل القوات المسلحة كثيرة. فهي في قولهم بؤرة انقلابات جاءت بالديكتاتوريات للحكم فكلفت حال البلد لمعظم سنوات استقلالها، وكلفت مقاومتها الأمرين، كما ضرجت السودان بحروب داخلية طاولت وأسقمت. وأخرجت من رحمها أيضاً مثل قوات الدعم السريع تستأجرها في خوض تلك الحروب تعبيراً عن عجزها عن حمل العبء كما ينبغي. ولما وجهت بندقيتها صوب مواطنيها فرطت في قطع غالية من الوطن مثل حلايب وشلاتين. ولما استنصر بها المواطنون ضد انتهاكات الدعم السريع في صلاحية حماية العرض لم يجدوها.هناك من سارع قبل الحرب بالدعوة لحل القوات المسلحة ومن استبطأ الحل. فقبل الحرب قال الأكاديمي حيدر إبراهيم في برنامج “كباية شاي”، الذي نظمته جريدة “التيار”، إنه متى استتب السلام لم نعد في حاجة لجيش مكلف حتى في التزامنا بمعاشات ضباطه المبالغ فيها. وقالت الصحافية رشا عوض في مقالها “حل الجيش الواجب الوطني الذي تأخر كثيراً” إن القوات المسلحة ليست وطنية ولا مهنية ولو “كان لدولتنا هذه آباء مؤسسين حقيقيين لكان أول قرار تتخذه حكومة الاستقلال في الأول من يناير (1956) هو حل هذا الجيش المصمم على حراسة سلطة المستعمر وقمع الشعب”.بعيداً من هذه الحيثيات التي ربما صدقت جماعات “لا للحرب” في كثيرها نسأل: هل هذه مرة هذه القوى الأولى لحل مؤسسة في الدولة أو المجتمع المدني أثقلت عليها فضاقت بها الوسيعة منها؟ هل طلبهم حل القوات المسلحة في يومنا خطة اتفقت لهم على ضوء حيثيات حصحصوها، أم أنه صادرة عن “عادة” سياسية وقرت فيهم يتخلصون بالحل من كل كيان كدرهم؟ بعبارة: هل دعوتهم لحل القوات المسلحة “سياسة” أم خصيصة “عادة” فيهم؟الراجح، متى تفحصت سيرة قوى لا للحرب، أن مطلبها بحل القوات المسلحة هو من عادتها لا سياستها، فقد سبق لها التخلص بالحل من مؤسسات في الدولة والمجتمع المدني من فرط غبنها منها وعليها حال غلبت فيها انفعال المعارض موغر الصدر لا رصانة رجل الدولة أو امرأتها. ودلائل ذلك أنهم ما تخلصوا من مؤسسة وظنوا أنهم قد كتبوا نهايتها واشفوا غليلهم إلا عادت. بل عاد بعضها أكثر تنمراً بما أوغر صدور هذه الجماعات عليها من جديد. وإن دلت تلك العودة على شيء فإنما تدل على أنه فات على من فككها أن لها منطقاً ووظيفة لا يكون المجتمع والدولة بدونهما. وإدراك هذه الوظيفة والمنطق من شيم رجل الدولة.لقوى “لا للحرب” وثبات حلت بها المؤسسات التالية: جامعة أم درمان الإسلامية 1969. اتحاد طلاب جامعة الخرطوم 1969. الإدارة الأهلية 1971. جهاز الأمن القومي 1984.حل جامعة أم درمان الإسلاميةما قام نظام الرئيس نميري في 1969، الذي اجتمعت حوله سلف قوى “صمود” و”الجذري”، أي الحزب الشيوعي، حتى رد جامعة أم درمان الإسلامية إلى سابق عهدها، المعهد العلمي، قاصراً علمها على الدين واللغة العربية. وكانت الجامعة أغلظت عليهم في السياسة إغلاظاً كبيراً. فوقف علماؤها مع الحكومة في 1965 في حلها للحزب الشيوعي ومع قرار المحكمة الشرعية العليا في 1968 بتكفير الأستاذ محمود محمد طه صاحب الدعوة الجمهورية. وما خف غلواء اليسار في نظام نميري بخروج الشيوعيين منه في يوليو (تموز) 1971 حتى عادت الجامعة أدراجها.وما غاب عمن حلوها أنها كانت مؤسسة أزف وقتها. وبغير تطويل كان طلاب المعهد، ممن يأتون من فقيرات الأسر والأرياف، صارعوا منذ الاستقلال لتحويل معهدهم لجامعة، فقد حرموا منذ تأسيسه في 1910 من الخدمة في الحكومة لضآلة شأن تعليمهم في وظيفتها التي احتكرها خريجو كلية غردون بجامعة الخرطوم. فأرادوا لمعهدهم أن يكون جامعة، جامعة أم درمان الإسلامية، طالما كان ذلك سبيلهم للوظيفة الحكومية.الإدارة الأهليةحل سلف قوى “لا للحرب” الإدارة الأهلية في 1971. وكانوا اضغنوا على نظام الإدارة الأهلية الذي قام في أرياف السودان بصورته الحالية على يد الإدارة الاستعمارية في النصف الثاني من العقد الثاني من القرن العشرين. فاصطرعوا كقوى حداثية مع سادة القبائل والطرق الصوفية، الأعيان، على موقع القيادة للسودانيين. فساء السلف تعاون الأعيان مع الإنجليز سمعاً وطاعة بينما كانوا هم طليعة الحركة الوطنية، ثم ساءهم نفوذ أولئك الأعيان على الأرياف ووضعهم لها تحت تصرف الأحزاب التقليدية مما سد أبواب الريف عليهم في الانتخابات.وكان قرار الحل الجلل محض ضغينة. لم يخضع لما استحق مثله من مراجعة ونقاش. فيكفي أن وزيراً كان في اجتماع الحل قال إن الوزير المتخصص قدم المشروع شفاهة بحضور نميري ولم يناقشه أحد سوى وزير من أصول في الإدارة الأهلية. وقال الوزير أنه علم علم اليقين أنه لا يعرض أمر على مجلس الوزراء لم يكن الوزير صاحب الأمر قد حصل على موافقة نميري عليه من وراء ظهر المجلس. ولم يلبث نميري أن أعاد الإدارة الأهلية بقانون في 1981 بعد أن تهاوت النظم التي رتبها لتكون بديلاً عنها. وبقيت فينا، أعوج عديل، إلى يومنا.التمثيل النسبيحل طلاب في سلف قوى “لا للحرب” الحالية اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في 1969. وأرادوا من ذلك استبعاد الإخوان المسلمين من الاتحاد لأنهم خرجوا لمقاومة نظام نميري أول قيامه في 25 مايو (أيار) 1969. وكان سلف “لا للحرب” في يومنا من أنصار النظام الأشداء. واستقلوا بكيان سموه “سكرتارية الجبهات التقدمية” من اليسار والوسط. وما اضطرهم إلى اعتزال الإسلاميين أن اتحادهم كان قد بني على مبدأ التمثيل النسبي. فبمقتضى أعراف ذلك التمثيل لا ترشح أي من الجماعات الطلابية السياسة سوى عشرين من أعضائها لمجلس الاتحاد الأربعيني تاركة العشرين الأخرى لغيره من المعسكرات ترعى فيها. وعليه سيكون للإخوان وجود قل أم جل ما قام على التمثيل النسبي. ومتى وجدوا في الاتحاد أزعجوا النظام من منصته، وذلك ما لم يرغب فيه طلاب “سكرتارية الجبهات التقدمية” ممن عزموا بحسب قولهم: “ألا تكون الجامعة جزيرة رجعية في محيط ثوري”.وطال الزمن قصر الزمن عاد اتحاد الطلاب بقانون في 1973. وجاء على مبدأ “الحر المباشر” لا التمثيل النسبي” أي إن بوسع جماعة، متى رشحت أربعين منها لمجلس الاتحاد، أن تحصد كل المقاعد: الكاسب ينالها جميعاً. وبلا تطويل ظل الكسب من يومها معقوداً بالإسلاميين إلا ما ندر حتى قال كاتب أن انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لم تعد حدثاً.الأمن القوميما انتصرت انتفاضة أبريل (نيسان) 1985 حتى تم حل جهاز الأمن القومي لنظام الرئيس نميري بعد 24 ساعة. ومن الطريف أن الأمر صدر للرائد عمر حسن البشير، رئيس السودان لاحقاً، من سلاح المظلات بتأمين موقع الجهاز وضبط ملفاته. وكان معارضو نظام نميري محقين بالطبع في بغضائهم للجهاز حتى هتفوا طويلاً “جهاز الأمن جهاز فاشستي”. ووقع الحل بعد ذائعة ذاعت أن الجهاز يرتب لانقلاب على الانتفاضة بقوة قوامها 5000 منتسب. ولم يكن في الجهاز بحسب بعض ضباطه لاحقاً سوى 3100 منتسب لا يجيد السلاح منهم سوى 60 فرداً. ولقي معارضو النظام من الجهاز الأمرين في الملاحقة حتى كانت له ملفات عن 18675 منهم. وكانت مؤسسيته ودقائقها نفسها صادمة لأولئك المعارضين لأنهم ما تعودوا من مثله إلا البوليس السري طوال عهد الإنجليز وما بعده. وزاد الطين بلة أن الجهاز كان من وراء عملية ترحيل الفلاشا من إثيوبيا عبر السودان إلى إسرائيل فأهان مقدساً عندهم.غير أن العجلة في التشفي من الجهاز أضلت أهل الانتفاضة عن خصائصه في غير ملاحقة معارضي النظام. ففجاءة تقطعت أوصال الجهاز بعملاء مزروعين في بلاد في دول المحيط والعالم ووسط الحركة الشعبية التي كانت تحارب النظام من إثيوبيا وواصلت حربها بعد الانتفاضة. ومن جهة أخرى ضحى الحل بأقسام ذات كفاءة ملموسة في الجهاز هي الأمن الخارجي والأمن الاقتصادي.وما لبث أن عاد جهاز الأمن أشد تنمراً على يد نظام الإنقاذ في 1989. وأطلق النظام يده في الاعتقال والاستجواب فقسى بمثل بيوت الأشباح سيئة السمعة. وزاد عتواً بأن تدجج بجناح عسكري هو “هيئة العلميات” (18 ألف جندي).يقال تقرع العصاة لذي الحلم. فإذا كان ما تقدم هو سجل قوى “لا للحرب” وحصادها من حل كيانات أوغرت صدرها في تاريخها فليتوقفوا عن دعوة حل القوات المسلحة. فكل مؤسسة سبق لهم حلها عادت أكثر توحشاً ربما، ولكن الجيش وحش مختلف. فعودته بعد حله، وفي شرط وجود الدعم السريع، مما لا يجرؤ أحد على التكهن به.The post إلا حل القوات المسلحة فهو كبيرة appeared first on صحيفة مداميك.