ما أشبه الليلة ب”أسوأ كوابيس” البارحة: (المقال السابع)

Wait 5 sec.

 بروفيسور إبراهيم أحمد البدويمقدمة:لقد كانت الأجواء السياسية فى العاصمة الخرطوم وسائر البلاد مترعة بالأمل والرجاء خلال الربع الأول من العام 2023 بأن تسفر المفاوضات المحمومة بين قيادتى القوات المسلحة والدعم السريع وبينهما وقيادات الحرية والتغيير عن العودة للاتفاق الإطارى. استشرافاً لهذا التطور المأمول قررنا فى منتدى البحوث الاقتصادية لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط – (مقرة الرئيسى بالقاهرة)(1) – والذى كنت مديره التنفيذى منذ يناير 2017 وحتى فبراير 2025، قررنا عقد ورشة عن مآلات العودة للإتفاق الإطارى وكيف يمكن تحصين مشروع الانتقال المدنى الديمقراطى وتفادى إعادة إنتاج “المتلازمة السياسية السودانية” التى أقعدت بالمشروع الوطنى السودانى منذ الاستقلال. (وصفت وزميلى الأستاذ الزاكى الحلو فى ورقة مشتركة هذه المتلازمة بأنها تتمثل فى تواتر حلقة عدمية، مفرغة من حالة الديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، تُطاح بها فى نهاية المطاف انتفاضات شعبية عارمة، ممهدة الطريق لانتخابات حرة وحكومات ديمقراطية ضعيفة، سرعان ما تصبح هى الأخرى فريسة سهلة لانقلابات جديدة، وهكذا دواليك. )(2).من حسن الصدف أن اتصل بى فى مقر عملى بالقاهرة البروفيسور جيمس روبنسون (أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة شيكاغو) ونحن نحضر لعقد الورشة فى الخرطوم، وأخبرنى بأنه يرغب فى السفر للسودان بغرض زيارة مناطق آثار الحضارة الكوشية فى شمال البلاد. كما ذكرت فى مقال سابق، أصدر بروفيسور روبنسون وزميله بروفيسور دارون أسيموغلو (أستاذ الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) كتابهما الموسوم “الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية” (باللغة الانجليزية) (3) فى العام 2019، بعد كتابهما المشهور (والذى تُرجم للغة العربية) ” لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والإزدهار والفقر”(4). وكنت وزميلى أستاذ الزاكى قد أسقطنا نظرية “الممر الضيق” لمقاربة ظاهرة المتلازمة السياسية السودانية فى ورقتنا الآنفة الذكر. الجدير بالذكر أن دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون وزميلهم سايمون جونسون (أستاذ الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) قد حصلوا على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 2024، تقديراً لمساهماتهم الأكاديمية المتميزة عن دور المؤسسات الاجتماعية في ازدهار البلدان، حيث بينوا عن طريق نماذج الاقتصاد السياسى الرياضية والشواهد التاريخية أن المجتمعات التي تعاني من ضعف سيادة القانون والمؤسسات الاستخراجية والزبائنية التي تستغل المواطنين تنتج دولاً فاشلة لا تحقق النمو أو العدالة الاجتماعية أو حتى القدرة على إحتكار العنف الشرعى والحفاظ على أمن المجتمعات فى بعض الحالات.عليه، إهتبلنا فرصة رغبة بروفيسور روبنسون بزيارة السودان ودعوناه لتقديم محاضرة فى الورشة عن نظرية “الممر الضيق ” والدروس والعبر لنا فى السودان من هذه النظرية والتجارب التاريخية التى وثقها وزميله فى كتابهم المشهور. (وبالطبع رتبنا له زيارة لمنطقة البجراوية لمشاهدة آثار الحضارة السودانية العظيمة والتى كان قد أخبرنى بإعجابه الشديد بها وتمنى علينا أن نوليها كسودانيين الإهتمام والترويج الذى تستحقه).بحمد الله عقدنا الورشة فى الخامس عشر من يناير بفندق كورال (الهيلتون سابقاً)، أى قبل ثلاثة أشهر فقط من إشتعال هذه الحرب المأساوية. وكانت فعالية محضورة أمَّها جمع كبير من قيادات المجتمع المدنى السياسى والاعلامى والأكاديمى، إضافة إلى عدد من شباب الثورة، حيث حرصنا على حضورهم كأصحاب مصلحة أساسيين فى عملية الفكر والإستنارة لمستقبل البلاد. وتواصلت المحاضرات والنقاشات لسحابةِ يومٍ كاملٍ، أدارها الأخ الصديق بروفيسور عطا البطحانى (أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم) بحنكة وإقتدار.لماذا تفشل الأمم:كانت المحاضرة الأولى عن “نظرية الممر الضيق” نحو الحرية والتطور الاقتصادى وتجارب الفشل والنجاح فى تاريخ الأمم على ضوء هذه النظرية، والتى قدمها بروفيسور جيمس روبنسون مبتدراً حديثه بعرض مبسط للنظرية، مفاده أن الحرية والازدهار لا يتحققان معاً إلا عندما يحدث توازناً دقيقاً بين دولة قوية ومجتمع قوي. فالدولة الضعيفة تؤدي إلى الفوضى وهيمنة النخب ذات النفوذ البدائى الهوياتى أو تسيد أمراء الحرب، بينما تؤدي الدولة القوية غير الخاضعة للرقابة إلى الاستبداد.يبقى إذن مسار ”الممر الضيق“ الذي “تقيد” فيه الدولة والمجتمع بعضهما البعض وبذات الوقت “تمكّنان” بعضهما البعض، مما ينتج عنه مؤسسات متينة، مساءلة لدى المجتمع تفرض سيادة القانون وتوفر المصالح (السلع والخدمات) العامة اللازمة لتحقيق التحولات التنموية والرفاه الاقتصادى والاجتماعى. كذلك شدد المحاضر على أن هذا “التوازن المجتمعى” الحميد لا يتحقق “مرة واحدة” كضربة لازبٍ وبصورة “مستدامة”، بل كما تشير التجارب التاريخية لمحاولات بناء الدول بأن توازن “المجتمع والنخبة” يتعرض لصدمات عدة فى سياق تطوره التاريخى، لهذا فالحفاظ عليه يتطلب تكيفاً ديناميكياً ويقظة متواصلة لمنع الانزلاق نحو “الفوضى” أو “الاستبداد”.وفقاً لهذه النظرية، أشار المحاضر إلى أن هناك ثلاث حالات إذا اجتمعت دفعت الدول للخروج من الممر:• الاستقطاب السياسى الهائل داخل المجتمع، سواءً أكان ذلك على أسس أيدولوجية أو هوياتية• عدم وجود مؤسسات ذات مصداقية كمُحكِّم لحل النزاعات، مثل المحاكم والنظم العدلية ذات المصداقية والمناقبية المهنية العالية؛ مفوضيات الانتخابات المحايدة؛ الخدمة المدنية المستقلة؛ أو منظمات المجتمع المدنى والقيادات الأهلية ذات الوزن والحيادية• الأزمات الاقتصادية الكبرى فى ظل تنافر الرؤى والبرامج وتسيد “الشعبوية الاقتصادية”، أو إغراء تفكيك الضوابط والتوازنات لصالح الاستحواذ على المواردإذا تضافرت هذه العوامل الثلاثة لا تستطيع “القواعد ” و”الاتفاقات” المرعية أن تكبح النزوع السلطوى لدى النخب في المنعطفات التاريخية الحرجة، عندها تخرج الدول من “الممر”، خاصة فى المراحل الأولى عندما يكون توازن المجتمع والنخبة المسيطرة على الدولة ما زال هشاً، حيث تنزلق الدولة والمجتمع إلى إحدى حالتين:أ‌. حالة “غياب الدولة” وتشرذم السلطة وتسيد العنف: حدث هذا مثلاً فى حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أتاحت فرصة الإطاحة بنظام الرئيس موبوتو سيسى سيكو فى عام 1997 قدراً من التوازن لكن للأسباب الثلاثة المذكورة سرعان من انفرط عقد الدولة وأمن المجتمع.ب‌. حالة “الاستبداد الورقى”: إنتصار الثورة فى زيمبابوى والقضاء على حكم الأقلية البيضاء فى عام 1980 أحدث توازناً جذرياً لصالح الأغلبية، إلا أن الإستقطاب الإثنى الحاد وتركة نظام الفصل العنصرى الاقتصادية وغياب التراث القانونى المتين سرعان ما دفع البلاد نحو نظام إستبدادى، تركزت فيه السلطة فى يد الرئيس موغابى بلا ضوابط وأيضاً بلا قدرات مؤسسية لتوفير المصالح العامة من تنمية وخدمات.ما بين الليلة و”أسوأ كوابيس” البارحة:عندما جاء دورى فى تلك الورشة لتقديم ورقتى مع أستاذ الزاكى الآنفة الذكر، أشرت إلى أن الانتفاضات الشعبية الثلاث تمكنت فى البداية من مواءمة قوة المجتمع مع قوة النخب العسكرية والمدنية الشمولية الحاكمة وفرضت الدخول في الممر الضيق. إلا أن الانتفاضتين الأوليتين لم تنجحا سوى في إنتاج ديمقراطيات هشة، قصيرة العمر نسبياً، بينما تم إعاقة ثورة ديسمبر وهى ما زالت فى مرحلة الحكومة الانتقالية. من الواضح، كما أبنا فى الورقة، إن عوامل الهدم الثلاثة كانت حاضرة فى كل حالات ما بعد الثورات السودانية وأنها كانت أكثر حِدة فى حالة ثورة ديسمبر.لقد تكالبت الثلاثية المدمرة من:(1) “الإستقطاب السياسى” و”عدم الوفاء للمواثيق”؛(2) “الإصرار من قبل النخب الأمنية-العسكرية على مواصلة الإستحواذ على الموارد الريعية الاقتصادية” وكذلك “الشعبوية الدونكيشوتية الجاهلة” بشأن معالجة أزمة تركة نظام الإنقاذ الاقتصادية؛(3) وضعف مؤسسات التحكيم الرسمية والمجتمعية للتوفيق بين صراع الرؤى والمصالح – تكالبت هذه الثلاثية فى الإطاحة بمكتسبات هذه الثورة العظيمة عند أول منعطف حاد. كان ذلك المنعطف “إتفاق جوبا” وإستحقاق “إنتقال رئاسة المجلس السيادى” للقوى المدنية. فقد وفر الأول تحالفاً داعماً للردة الشمولية والثانى دافعاً لإنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر المشئوم.عندما عقدنا تلك الورشة كان الشعور العام الذى خرجنا به من معظم المداخلات بأن العودة للإتفاق الإطارى سوف يعيد البلاد إلى مسار تحقيق أهداف الثورة (أو إعادة التموضع فى “ممر أسيموغلو-روبنسون” وإن كان ذلك سيكون فى أضيق جزء منه). عليه، كان التركيز على ضرورة توافق القوى المدنية الديمقراطية على العمل مجتمعة لتفادى المخاطر المحدقة بالثورة ومشروعها ومعالجة “الثلاثية” المدمرة التى كانت وراء “فشل الأمم”، كما أفادت الشواهد التاريخية المتواترة.لم يكن يخطر على بال أحد فى ذلك اليوم من يناير 2023، قبل ثلاثة أشهر من الحرب، أن الحركة “الإسلاموية” سوف تقدم على هذه الجريمة الشنعاء، مثيرة فتنة ماحقة، مدمرةً الوطن على من فيه من إنسان وما توفر لديه من مقدرات وموارد وتاريخ، ومحطمة آمال وأحلام شباب صنع أعظم ثورة فى تاريخ البلاد الحديث، بل وفى سائر منطقتنا العربية – الأفريقية.لكن للأسف قد حدث ما لم يكن منظوراً فى “أسوأ الكوابيس”، فماذا على أهل السودان فعله، تحديداً كيف يمكن للقوى المدنية الديمقراطية التصدى للمخاطر الوجودية التى تمثلها هذه الحرب؟نحو مشروع وطنى لتوطين مبادرة الرباعية والدعم الأممى:برأى أن المبادرة الرباعية تمثل نقلة نوعية في مساعي إنهاء الحرب السودانية. إذ وضعت المبادرة خريطة طريق تشمل وقف إطلاق النار، عملية انتقالية شاملة، مبادئ أساسية للحل والسلام، وآلية متابعة التنفيذ والمساءلة. إلا أن هذه المبادرة، رغم أهميتها، ليست مشروعاً أصيلاً بحد ذاته لبناء السلام، بل ينبغي توظيفها كرافعة لمشروع وطني سوداني واضح المعالم.عليه، مرة أخرى ندعو القوى المدنية – بشقيها السياسي والاجتماعي – إلى عقد مؤتمر قومي شامل للسلام، يشارك فيه ممثلون عن كافة مكونات المجتمع السوداني من أحزاب سياسية، نقابات، منظمات مجتمع مدني، حركات شبابية ونسوية، وزعماء محليين، بعيداً عن صفقات الغرف المغلقة. يهدف المؤتمر إلى التوافق على “ميثاقٍ جامعٍ” يعبر عن الإرادة الشعبية، ويحدد معالم الانتقال السلمي المدني الديمقراطي، مع وضع آليات واضحة للإصلاح المؤسسي وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة، ويعالج “الثلاثية” المدمرة الآنفة الذكر على وجه الخصوص. هذا الميثاق الجامع الذي سيخرج به المؤتمر القومي سيكون بمثابة عقد اجتماعي جديد، تكون مرجعيته الشعار الأيقونة لثورة ديسمبر المجيدة:”حرية، سلام وعدالة”.من حيث البرامج العملية لإنهاء الحرب وبناء السلام، على القوى المدنية الديمقراطية عدم الإكتفاء فقط “بتوطين” مبادرة الرباعية تحت سقف مشروعها، بل هناك دوراً محورياً للأمم المتحدة فى عملية حفظ وبناء السلام وتعزيز توازن القوى المرجح لمشروع الانتقال المدنى الديمقراطي، تعرضت له بالتفصيل فى مقالى السابق(5) وأُعيد تضمين توصياته الرئيسة أدناه :أولاً، للقوى المدنية السودانية: بلورة رؤية موحدة تطالب بوجود أممي فعّال في مسار المبادرة الرباعية، مع التأكيد على أولوية الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية.ثانياً، للقوى السياسية: العمل على تحييد المصالح الفئوية عبر تبني المرجعيات الأممية كإطار جامع تحت سقف “الميثاق الوطنى” المنشود.ثالثاً، للمجتمع الدولي: ربط التمويل والدعم السياسي بمدى الالتزام بالمعايير الأممية، وخاصة في قضايا نزع السلاح، إعادة الدمج، والمساءلة.رابعاً، للمبادرة الرباعية: ضمان ألا تتحول العملية إلى ساحة تنافس نفوذ، عبر قبول شراكة أممية متوازنة مع الاتحاد الأفريقي، الجامعة العربية، إيقاد والمنظمات الإقليمية الأخرى.The post ما أشبه الليلة ب”أسوأ كوابيس” البارحة: (المقال السابع) appeared first on صحيفة مداميك.