لسنا من حال ليبيا… طرابلس ربما

Wait 5 sec.

د. عبد الله علي إبراهيممتى طلب كثير من السودانيين والمشغولين بمسألتهم في المجتمع الدولي مماثلاً لمحنتهم من حربهم وقعوا على ليبيا. فقيام ليبيا في دولتين مما يغري بها عند السودانيين الذين ينتظرون انقسامهم إلى دولتين انقساماً لم تنهض عليه الشواهد، أو هو ضعيفها في أحسن الأحوال.وبدا مع ذلك أنهم لم يقعوا على المماثلة الصائبة. فحالهم من جهة الدولة في واقع الأمر أكثر حرجاً من ليبيا بمراحل. فالدولتان في ليبيا، طرابلس وبنغازي، من حقائق تاريخهما وحتى وحدتهما على يد الاستعمار الإيطالي في 1934 مهما كان الأمر. أما ما ينتظر السودان في الواقع فهو سقوط الدولة الذي قد يشققها إلى دولتين (إذا صح وصفهما بذلك) ضمن فوضى بلا قاع. ولن يكون سقوط الدولة نتيجة مرتجلة لما نحن فيه. فقد خرجت دوائر مؤثرة في القطاع الحداثي بالذات جعلت هذا السقوط مبلغ علمها وأكثر همها. ودعت صريحاً إلى حل القوات المسلحة مربط الدولة.قد يحملنا سقوط الدولة الذي يتداعى له نفر منا إلى بحث عن مثيل لمأزق السودان غير ليبيا التي سنعود إليها لاحقاً. فيستغرب المرء لماذا لم تخطر بلد كهايتي لطلاب المماثلة للسودان في الارتباك. فهي ربما البلد الوحيد، إلى جانب العراق، التي طلبت صفوة منها حل الجيش ضيقاً به لإزعاجه البلاد بانقلاباته أو فساده أو تنمره. وتخلصت منه في 1994 لتنتهي لا إلى دولة غلبت العصابات على حكمها فحسب، بل إلى الدولة التي سقم المجتمع الدولي منها بعدما باءت بالفشل محاولاته المتكررة لإنقاذها من نفسها. وبلغ هذا السقم بأحدهم ليقول “لم نجرب بعد ألا نمنح هايتي مزيد شيء لحلحلة مسألتها. دعنا نجرب الامتناع عن مساعدتها لعقد من الزمان. لنجرب هذه فكل شيء آخر فشل”.مع ذلك لم يقنع العالم بالمحاولة حتى ولو بدا منها هزالها. فاتفق له في حربه للعصابات في هايتي أن يستخدم المسيرات، التي أوكلت لشركة عسكرية خاصة لاستهداف زعماء العصابات وقتلهم. والفكرة الكبرى من وراء هذه الحيلة هو الحد من نشاط العصابات لأنها في تقديرهم ستمتنع ذعراً من المسيرات. وهو تعطيل تبتاع به الحكومة الوقت حتى تتفق لها خطة أنجع في حربها. ووصف المحللون المشروع بالطموح جزافاً. فلم يحسن طاقم الشركة حتى التصويب على زعماء العصابات حتى سخر زعيم عصابة من الخطة بفيديو ظهر فيه قائلاً “لقد أخطأتني الحكومة”. وسرعان ما صارت حرب العصابات بالمسيرات في خشم منظمات حقوق الإنسان بعد قتلها 8 أطفال وجرح آخرين في استهدافها لزعيم أحد العصابات.وبلغ هوان أمر هايتي أن روجوا لها أخيراً واقعة استعادة شرطتها مركزاً حيوياً للاتصالات من العصابات التي غلبت عليه. ووصفوا العملية بالنجاح النادر للشرطة والبعثة الشرطية الكينية فيها. وكانت عصابة “فيف أنساوم”، التي تستهدف البني الحرجة لهايتي مثل إغلاقها المطار لشهور والهجوم على السجون وإطلاق 4000 من السجناء، وهي العصابة التي سمتها أميركا منظمة إرهابية، وظهر في فيديو عضو من الميليشيات يهدد الحكومة أن تجلس للتفاوض وإلا سيشعل النار في الجهاز كله. وكان أعضاء في الميليشيات من حوله يشعلون السيرفرات وبقية العدة.فإذا انحل الجيش فالدولة في السودان صارت مثل طرابلس التي استغنت عن الجيش، أو لم ترثه عن القذافي، وغلبت فيها الميليشيات. فلم يبن القذافي في ليبيا جيشاً إلا بالاسم. وعلى رغم أنه توسع فيه نفراً فإنه حل عقدة القيادة به بأحابيله مثل تكوين “جماهيرية” الجنود التي تملك حق عدم إطاعة أوامر القيادة، علاوة على قيام التعيين فيه بمحاصصات قبلية. وأهمل الجيش بالكلية بعد هزيمته النكراء في تشاد. وألغى وزارة الدفاع نفسها ليرمي بثقله في حماية حكمه على القوات الخاصة واحدة بعد أخرى حتى أنشأ الحرس الجماهيري في 1987-1988. وجعل القذافي على شبكاته الأمنية والعسكرية رجالاً من الدرجة الأولى في القرابة منه. وجاءت عناصرها الأخرى من القذاذفة، قبيلته، وحلفائها من مثل الورفلة والمغارثة.ولما قامت الثورة عام 2011 لم يكن في ليبيا جيش بالمعنى المعروف، وملأت الفراغ الفرق الثورية المسلحة السيئة الظن بالجيش لخوفهم من أن ينقلب عليهم. ونتيجة لذلك لم تشرع قوى الثورة، التي لم تكن لها قيادة مركزية، في بناء منظومة عسكرية وأمنية. وبذلك صار السلطان في الدولة لهذه الفرق تتنافس في ما بينها في السيطرة على مرافق الدولة، وفي حيازة الأراضي، وجني المنافع لتمويل نفسها. فاستباحت حين توحدت في “معركة الكرامة” ضد قوات حفتر، الذي هو جيش بأمره، “البنك الوطني” لتصرف على نفسها صرف من لا يخشى الفقر.ولم يغير قيام حكومة عبدالحميد الدبيبة الشرعية في الأمم المتحدة في مارس (آذار) 2021 من معمار طرابلس العسكري الذي تركز حول حفنة من جماعات مسلحة تصارعت حول السلطة والمداخل إلى مؤسسات الدولة والإتاوات. فتواتر الاحتكاك بينها والاشتباكات. وتصطرع ثلاث ميليشيات في أيامنا على النفوذ والمال في طرابلس. فالحكومة الشرعية بقيادة الدبيبة تستنفر الميليشيات الموالية لها من مصراتة علاوة على كتائب لها عنوان الدولة كما سيجيء. وتحتل ميليشيات الردع بقيادة عبدالرؤوف كارة شرق مدينة طرابلس ومطار المدينة. أما الميليشيات الثالثة فهي جهاز دعم الاستقرار بقيادة عبدالغني الككلي (غنيوة).وروعت طرابلس وما حولها منذ مايو (أيار) الماضي باشتباكات بين الميليشيات وحلفائها لم يجد معها صلح ساقتهم إليه تركيا. فقد خرقوه ولم يلبث بينهم لأسبوع.بدأ الصراع في اجتماع انعقد بين قيادات الميليشيات في طرابلس في مساء الـ12 من مايو الماضي لخفض التوتر بينها، غير أن اللقاء انتهى إلى تبادل لإطلاق النار لسبب غير واضح بعد. وقتل في المخاشنة عبدالغني الككلي زعيم ميليشيات جهاز دعم الاستقرار التي كانت تعد أقوى ميليشيات طرابلس. وبعد مصرع غنيوة تحالفت قوى مناوئة للجهاز بقيادة الكتيبة 444 التابعة اسمياً لوزارة الدفاع، لاحتلال مركزه العام وفعلت وأعلنت نهاية الجهاز وخروجه من الساحة. ومن فوق ذلك النصر في الـ13 من مايو تحركت قوات الدبيبة ضد قوات الردع وحلفائه في البوليس القضائي عند مواقع استراتيجية من المدينة. ودخلت المعركة بحلول الفجر الكتيبة 111 وخدمات الأمن العام بقيادة عبدالله طرابلسي، شقيق وزير الداخلية عماد طرابلسي، إلى جانب الفرقة 444. واضطر “الردع” إلى الانسحاب تكتيكياً ليتحصن بمواقعه بشرق المدينة مستقوياً بميليشيات حليفة من مدينة الزاوية غرب العاصمة لرفع الضغوط عليه. وسرعان ما توصل الطرفان لوقف إطلاق النار في نهار الـ14 من مايو.وكانت للدبيبة خطة أخرى. فأغراه التخلص من جهاز دعم الاستقرار ليطلب رأس ميليشيات “الردع” لفرض إرادة الحكومة القائم عليها. فحرك قواته من مصراته في السابع من سبتمبر (أيلول) للقضاء على قوات الردع. وتداركت تركيا الموقف ونجحت في احتواء الصراع وحمل الفئتين للتوقيع على اتفاق قضى بتسليم “الردع” مطار طرابلس للحكومة في سياق استرداد الشرعية لها. وكانت السيطرة عليه لأي من الميليشيات باباً للثروة. وأراد “الردع” من تنازله عن المطار وما حوله المحافظة على سيطرته على منطقة سوق الجمعة وما جاورها. وبعامة لم يتطرق الاتفاق إلى موضوع نزع السلاح. ومع كسب الحكومة فإنها لم تخرج من الاتفاق وقد سيطرت على كامل العاصمة. فلا تزال “الردع” قائمة بوجهها. فإن تنازلت عن مطار طرابلس فإنها تفرض هيمنتها على الأرض من حوله.وما لبث أن التحمت في الـ21 من سبتمبر جماعة من القوة المشتركة من طرف الحكومة مع الكتيبة السادسة لقوات “الردع” مستخدمين الأسلحة المتوسطة والثقيلة. وتداعى اتفاق السلام الذي تم لأسبوع مضى.المقارنة في مثل مماثلة وضع السودان بشبيهات له في العالم ليست “تلاقيط” كما في جاري خطاب كثيرين. فبينما لم تنهض الدلائل على شبه مماثلة بين أزمة ليبيا والسودان من جهة قيام الأولى على دولتين تجد الدلائل على مماثلته لهايتي وطرابلس في مفردة مركزية: فكلاهما فقد الجيش في حمى ثورية أو استبدادية. ومن أسف تنتاب هذه الحمى جماعة سودانية مؤثرة لم تعد ترى نهاية للحرب العبثية بغير حل دولة 56 وإحالة جيشها للاستيداع.وفي هذه الجماعة عادة متأصلة وهي أنه ما إن ادلهم الخطب وضمرت حيلتهم كان “الحل في الحل” منهاجهم. فحلوا جامعة “أم درمان” الإسلامية بعد انقلاب مايو (أيار) 1969 التقدمي، وحلوا جهاز الأمن القومي بعد ثورة 1985 مثلاً. ولم ينحل أي منهما مع ذلك واستعادا موقعهما في حياتنا في لمح بصر.The post لسنا من حال ليبيا… طرابلس ربما appeared first on صحيفة مداميك.