عاطف عبداللهفي البدء، خالص الشكر والتقدير للصديق الدكتور مجدي إسحق، “قيثارة الوعي المتجدد التي لا يخفت صداها”، فقد كان له الفضل في لفت نظري وأنظار آخرين إلى هذا الفرع من العلم، الذي لولاه لما أحطنا به معرفةً ولا سمعنا به على هذا النحو. فقد قدّمه لنا في مؤلفاته، وأخص منها كتابي دوائر القهر والثورة من منظور علم النفس السياسي. كما جعله – عبر الندوات والمقالات – في متناول القارئ والمثقف العادي، على الرغم من تعقيد مصطلحاته وتشابك مفاهيمه. وبفضله تعرفنا على ماهية الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي، الأمر الذي شجع الكثيرين على الخوض في هذا المجال والكتابة فيه.وقد أصدر الصديق عثمان فارس مؤخراً كتاباً ثرياً بعنوان القهر المزمن، وهو يدور في فلك علم النفس السياسي، كما كتب الزميل والصديق عوض حسن مقالاً بعنوان صدمة الوعي؛ رؤية نفسية للتحول من الأزمة إلى الهوية مستخدماً أدوات هذا العلم. وها أنا بدوري أتجاسر هنا لأدلي بدلوي، وأغترف من معين هذا البحر الذي لا ينضب، مستعيناً بأدوات علم النفس السياسي. فالشكر موصول للدكتور مجدي الذي فكك مغاليقه، وقرّبه من فهمنا واستيعابنا.علم النفس السياسي هو فرع من فروع علم النفس وعلم السياسة يدرس العلاقة بين العمليات النفسية والسلوك السياسي. يركز على فهم كيف تؤثر العواطف والدوافع والتحيزات المعرفية والشخصية على القرارات السياسية، سواء كانت فردية أو جماعية.يقول الفيلسوف الفرنسي “إتيان دي لابويسيه” في كتابه العبودية المختارة:“يصعب على المرء أن يصدق كيف أن الشعب متى تم إخضاعه يسارع إلى السقوط فجأة في هوة النسيان العميقة لحريته، حتى ليمتنع أن يستيقظ لاستعادتها، ويقبل على الخدمة بحرية وتلقائية حتى ليظن من يراه أنه لم يخسر حريته بل ربح عبوديته”.هذا النص الفذ يثير سؤالاً قديماً متجدداً: كيف يمكن لشعبٍ ما أن يختار القيود التي تُفرض عليه، فيراها أماناً أو راحة نفسية، بينما هي في حقيقتها تسلبه ذاته وحريته؟في التجربة السودانية، لا تبدو هذه الفرضية غريبة. فمنذ الاستقلال ظل المسار السياسي يتأرجح بين ومضات حكم مدني قصيرة وانقلابات عسكرية أو أنظمة شمولية طويلة. وعلى الرغم من ثورات متكررة أبهرت العالم، كثيراً ما استقر الرأي العام – أو قطاع واسع منه – على قبول الحكم القهري، بل أحياناً تمجيده، باعتباره صمام أمان أو ضمانة للاستقرار. وكثيراً ما طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي بمن يمجد الدكتاتور جعفر نميري أو يمدح حكم عبود. حتى بعد ثورة ديسمبر المجيدة، رأينا شرائح من الشباب تنخرط في صفوف المليشيات المتطرفة أو في حملات تمجيد القادة العسكريين، بينما تُستقبل ندوات الأحزاب المدنية بالهجوم أو التشكيك.هذا يقودنا إلى مفهوم “المواطن المستقر” بكل ما يحمله من تناقض. ففي معناه الظاهر يشير إلى الاستقرار، إلى أن الإنسان وجد أرضية ثابتة للوجود: استقرار مادي (سكن، أمان، حقوق أساسية)، واستقرار نفسي (شعور بالانتماء والجدوى). ومن المفترض أن يتحرر الفرد “المستقر” عندها من انشغالات البقاء اليومية ليصعد إلى التفكير الحر، أي أن المواطن المستقر يملك “المسافة النقدية” التي تسمح له بالتفكير خارج القطيع.لكن في عالمٍ ينبذ الديمقراطية والتعددية والعلمانية يتخذ مفهوم “المواطن المستقر” منحى آخر، والأنسب والأكثر اتساقاً مع المعنى هو “المواطن المستلب”. إذ نجده يستبدل الحرية بطمأنينة زائفة، يرى المطالبة بالحقوق مؤامرة، ويتصالح مع القمع لأنه يمنحه وهم الأمان. يعيش في كنف القطيع، متماهياً معه، ويجد في التكرار والاستسلام راحةً من قلق السؤال والاختلاف. وهو نتاج مباشر لعقود طويلة من الأنظمة القهرية، حتى صار الاستبداد بالنسبة إليه هو القاعدة، والحرية مجرد مغامرة غير مضمونة العواقب. لكن مع تحفظي على المعنى سأستخدم هنا المفهوم الشائع “المواطن المستقر”.يمكن تلخيص مفهوم “المواطن المستقر” من خلال النقاط التالية: التكيف مع الاستبداد: اعتاد القمع لدرجة أنه لم يعد يشعر بالحاجة إلى الحرية، وفقد الرغبة في التغيير أو المقاومة.الاهتمامات الضيقة: تنحصر في ثلاثة جوانب: الدين كطقوس شكلية بلا صلة بالعدالة، لقمة العيش كهمٍّ وحيد، والترفيه كتعويض عن واقع ظالم.العبودية الطوعية: يفضل الاستقرار الوهمي الذي توفره السلطة المستبدة على مواجهة الاستبداد ومخاطر الثورة. عائق التغيير: يصبح عقبة أمام أي تقدم، لأنه يرضى بالوضع الراهن ولا يسعى إلى تغييره.دور السلطة في تكوينه: عبر الأسرة والتعليم والإعلام والنظام الاقتصادي الذي يحصر وعي الفرد في حدود ضيقة ويقتل قدرته النقدية.بهذا المعنى، فإن المواطن المستقر “المستلب” ليس توصيفاً علمياً صارماً، بقدر ما هو مقاربة نفسية-اجتماعية لفهم استمرارية الاستبداد في المجتمعات. ففي علم النفس السياسي لا يوجد ما يسمى بـ “نظرية المواطن المستقر” كمصطلح أكاديمي محدد، ولكن هذا المفهوم يُستخدم بشكل واسع في الأدبيات السياسية والفكرية لوصف نمط سلوكي معين للمواطن في المجتمعات التي تعاني من الاستبداد أو القمع. مواطن شعاره: “امشي عدل يحتار عدوك فيك”.ما يقض مضاجع المواطن المستقر هم أصحاب التفكير النقدي.أما التفكير خارج القطيع، فهو فعل شجاعة، انشقاق عن السائد، ورفض لأن يكون الاستبداد قاعدة والحرية مغامرة. هنا يبرز مفهوم التفكير النقدي باعتباره الشرط الجوهري للتحرر. فالتفكير النقدي، في تعريفه العلمي، هو القدرة على التحليل المنهجي للأفكار والمواقف، وفحص الأدلة والبراهين بعيداً عن الأهواء والانحيازات، مع الاستعداد لتغيير القناعة إذا واجه الفرد حججاً أقوى. وهو ممارسة عقلية تسعى إلى التمييز بين الرأي والمعرفة، وبين الدعاية والحقيقة، وبين الوهم والواقع. بهذا المعنى يصبح التفكير النقدي مضادًا حيويًا “يقض مضاجع المواطن المستقر”، لأنه يحرّره من وهم الأمان الزائف، ويضعه وجهاً لوجه أمام أسئلة الحرية والعدالة.أما من زاوية فلسفية، فإن التفكير النقدي امتداد لتقليد عريق يبدأ بالشك المنهجي عند ديكارت، ويمرّ بالديالكتيك عند هيغل وماركس، ويجد حضوره في النقد الفلسفي الكانطي. وهو ليس مجرد مهارة تحليل أو فحص للأدلة، بل موقف وجودي من العالم يقوم على مساءلة كل يقين، ونزع القداسة عن الأفكار السائدة، والاعتراف بأن الحقيقة لا تُعطى جاهزة بل تُبنى عبر الحوار والجدل والتجربة. بهذا المعنى يصبح التفكير النقدي فعل مقاومة ضد الثبات والدوغمائية، وممارسة للحرية في أرقى صورها.لكن المفارقة أن المختلف غالباً ما يدفع حياته ثمناً لجرأته، بينما يخلده القطيع بعد موته. سقراط صار أبا للفلسفة بعد أن شرب السم، وجيردانو برونو صار رمزاً للحرية بعد أن أُحرق، ومارتن لوثر كينغ صار أيقونة بعد اغتياله. كأن القطيع لا يحتمل المختلف حيّاً لأنه يهدد استقراره، لكنه يتبناه ميتاً حين يزول خطر عدواه. هكذا يمكن القول إن التاريخ ليس سوى ساحة يُقتل فيها المختلف في الحاضر، ثم يُقدَّس في المستقبل، وكأن القطيع في حاجة دائمة إلى قتله ليطمئن، ثم إلى تخليده لاحقاً كي يتزين به.يبقى السؤال: كيف نكسر هذه الدائرة في عالمنا العربي عامةً، وفي السودان على وجه الخصوص؟ كيف نُخرج “المواطن المستقر” من حالة الاستكانة في ظل الأنظمة القمعية إلى حالة التمرد التي تسمح له بالتفكير الحر وامتلاك “المسافة النقدية”؟في السودان، التحدي أكبر: كيف نعيد لشباب الثورة – الذين فقد بعضهم الثقة في السياسة، أو انجرف آخرون إلى صفوف المليشيات والحرب – وعيهم بقيمة الحرية والديمقراطية كشرط لبناء وطن مستقر؟ ما السبل العملية لمعالجة هذه السلبية، خاصة بعد أن لاحظنا هجوم بعض شباب الثورة على ندوات القوى المدنية؟إنها تساؤلات مفتوحة على النقاش بين علماء النفس والسياسة والاجتماع والفلسفة، وأخص منهم الدكتور مجدي إسحق، النطاسي الحاذق والمداوي البصير للنفس السياسية السودانية. وكذلك أطرح الموضوع على طاولة البحث بين المفكرين والفاعلين المدنيين على حد سواء: كيف يمكن تحرير العقل الجمعي من “نسيان الحرية”، وغرس وعي راسخ بأن الكرامة والعدالة لا تنفصلان عن الالتزام بالديمقراطية والتعددية، مهما بدت الطريق طويلة، وعرة وشاقة؟The post العبودية المختارة … من المواطن المستقر إلى التفكير خارج القطيع appeared first on صحيفة مداميك.