خالد كودي-نشكر للأستاذ هشام هباني تنويره بخبر انعقاد الاجتماع عبر منصة زووم لبعض السودانيين الأميركيين تحت إشراف سكرتارية ملتقى أيوا للسلام والديمقراطية. وقد قيل انه انشغل النقاش بقضايا مهمة مثل دعم جهود السلام، وقف الحرب، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وساد الاجتماع جو من التوافق وحسن النية، وهو أمر يُحسب للمشاركين. غير أن السؤال الجوهري يظل مطروحًا: هل تأسس الحوار على مدخل صحيح؟في تقديري، هذه اللقاءات، رغم نبل دوافعها، تعكس نمطًا مقلوبًا اعتدناه من نخب المنافي في المجموعات والقروبات الماليها عدد: اذا تجاوزنا اللت والعجن والحفر والشخصنة، الرصين منها تبدأ من الحديث عن الأدوات (الإغاثة، المساعدات، الضغط السياسي- ومؤخرا، بعد حرب ١٥ ابريل اضيف وقف الحرب وإشاعة السلام) وهذا قبل أن تحدد المرجعيات الكبرى والمنطلقات الفكرية التي توجه تلك الأدوات. والحال أن أي مشروع وطني للتغيير او للمساهمة في تغيير واقع معقد مثل وطننا الام- السودان لا يُبنى من الأدوات إلى الغايات، بل وفق منطق متسلسل: منطلقا/ منهج/ رؤية → أساليب → غايات. أما عكس الترتيب، فليس إلا معالجة عرضية لمرض مزمن بالمسكنات، دون الاقتراب من جذوره.نحو لوبي سوداني يستلهم تجربة أميركا التأسيسية:البلد الذي نقيم فيه اليوم لم يبلغ ما هو عليه بالاستجداء لأوروبا طلبًا للمساعدات الإنسانية، ولا بالرهان على ضغوط الخارج لوقف حربه الأهلية. بل شق الأميركيون طريقهم بأداء واجبهم التاريخي، ودفعوا ثمنًا باهظًا من الدماء والانقسام والمعاناة، ليؤسسوا دولة جديدة على أنقاض انقسام قديم. ما تحقق هنا لم يكن منحة من أحد، بل حصيلة كفاح داخلي وصراع اجتماعي–سياسي جسور، جعل من الولايات المتحدة ما هي عليه اليوم.لقد فهم أبراهام لنكولن أن الدولة لا يمكن أن تبقى قائمة على نصفها عبد ونصفها حر، وأن المصير السياسي للأمة مرهون بحسم سؤال الحرية. أما فريدريك دوغلاس، الزعيم الأسود والمحرر، فقد لخّص الدرس بجلاء حين قال: “من دون صراع، لا يمكن أن تكون هناك حرية”. بهذا المعنى، تأسست التجربة الأميركية من الداخل، بالتضحيات والمواقف المبدئية، لا بالرهان على المنح الغذائية أو الدوائية. إنها تجربة تُذكّرنا بأن بناء الدول لا يتم عبر انتظار عطايا الآخرين، بل عبر مواجهة تناقضاتها بنفسها وحسم أسئلتها التأسيسية.من أين ننطلق؟ درس الحرب الأهلية الأميركيةونحن نقيم في الولايات المتحدة، لا ينبغي أن نتعامل مع تاريخها بوصفه ماضياً مغلقاً، بل كتجربة تأسيسية ما تزال تحمل دروساً راهنة لسودان اليوم. فالحرب الأهلية الأميركية (1861–1865) لم تكن مجرد مواجهة عسكرية بين شمال صناعي وجنوب زراعي قائم علي الرق، بل كانت معركة على سؤال فلسفي–سياسي جوهري: ما معنى المواطنة؟ ومن يملك الحق في تعريف الأمة؟ ويجب مقاربة هذا السؤال بجدية فيما يجري في السودان اليوم.مهم ان ندرك ان الحروب ليست أحداثاً ساكنة، بل سيرورات متحركة تتغير بقدر ما تُحدثه من دمار مادي وتحولات إنسانية. فالحرب تُعيد تشكيل البشر كما تُعيد تشكيل الدول: تطيح بأنماط قديمة من التفكير، وتفتح الباب أمام إمكانات جديدة لم تكن مطروحة من قبل. وهكذا لم تكن الحرب الأهلية الأميركية مجرد صراع على “وقف القتال”، بل تحولت إلى مختبر تاريخي أعاد تعريف الحرية والمواطنة، وفرض سؤالاً حاسماً: هل يمكن لأمة تُعلن قيامها على المساواة أن تستمر وهي منقسمة بين أحرار وعبيد؟إن منطق الحروب يكشف أنها لا تُغيّر الخرائط وحدها، بل تعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته وبغيره، وتحوّل طبيعة الدولة من الداخل. وهذا هو الدرس الذي يجب أن نستلهمه في السودان: أن الحرب ليست فقط مأساة، بل أيضاً مفترق طرق يفرض علينا إعادة التأسيس على أسس جديدة، أكثر عدلاً وإنسانية، هذا ان اردنا سودانا من اصلو!المؤرخ هوارد زن “من عندينا- من بوسطن” يذكّرنا بأن الحرب لم تكن “ملحمة نقية” لأبطال بلا تناقضات، بل كانت صراعًا معقدًا تشابكت فيه المصالح الاقتصادية، والانقسامات الاجتماعية، والأطماع السياسية. أما ديفيد بلايت “من كونيتيكت” ولايزال علي قيد الحياة، فيقرأها بوصفها “لحظة تأسيس ثانية” للولايات المتحدة الامريكية، إذ انتهت بإلغاء الرق، وتوسيع دائرة المواطنة، رغم استمرار العنصرية البنيوية لعقود طويلة بعدها. وهذا ما يجب علي كل امريكي من أصول أي دولة بها حروب أهلية ان يتعلم!الرئيس إبراهام لنكولن لم يتعامل مع الحرب كمسألة عسكرية فحسب، بل نظر إليها كـ”اختبار أخلاقي” للأمة: هل يمكن لدولة قامت على فكرة الحرية أن تبقى منقسمة بين أحرار وعبيد؟ رؤيته لم تكن مثالية أو مكتملة، لكنها فتحت أفقًا جديدًا: كل إنسان يولد حرًا، وله حقوق لا تنتقصها العِرقية أو الدين. وفي خضم هذا الجدل، برزت أصوات أخرى لا تقل أهمية: قادة ومفكرون سود مثل فريدريك دوغلاس، الذي جادل بأن الحرية لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع بالنضال؛ ونساء مثل سوجورنر تروث، اللواتي وسّعن مفهوم الحرية ليشمل الجندر والطبقة أيضًا. لقد شكّلت هذه الأصوات، مع لينكولن وغيره، تعددية فكرية وصراعية أنتجت في النهاية دستورًا أكثر علمانية واتساعًا لمفهوم المواطنة.إذا عدنا إلى السودان، فسنجد أننا نعيش سياقًا شبيهًا من حيث الجوهر وإن اختلفت التفاصيل: حرب أهلية ممتدة، جذورها في سؤال المواطنة نفسه. هل يمكن لدولة سودانية أن تبقى قائمة على التمييز الديني والعرقي والجهوي، وتدّعي مع ذلك تمثيل “الأمة”؟ الإجابة التي تعطيها التجربة الأميركية واضحة: لا استقرار بلا مساواة، ولا أمة بلا مواطنة متساوية.السودان اليوم يحتاج إلى “لحظة تأسيس ثانية” شجاعة، لا تعيد تدوير صيغ المركز القديمة، بل تبني دستورًا علمانيًا، ديمقراطيًا، لا مركزيًا، يقوم علي المواطنة، يعترف بالهامش ويُدرج حقوق الأقليات والنساء والنازحين في صميم المواطنة. تمامًا كما أنتجت الحرب الأهلية الأميركية عقدًا اجتماعيًا جديدًا، ينبغي أن تنتج حرب السودان الحالية لحظة وعي مماثلة: أن الحرية لا تتجزأ، وأن العدالة لا تقبل القسمة.الدستور الأميركي كإطار علماني… وازدواجية السودانيين في المهجر على الرغم من كل تناقضاتها، فإن التجربة الأميركية تظلّ متميزة في أنها أسست دستورًا علمانيًا وضع المواطنة فوق الدين، وحقوق الأفراد قبل هوية الأغلبية. وهذا درس جوهري لكل من يختزل الديمقراطية في “أغلبية ميكانيكية” تصوّت وتنهي النقاش، متجاهلًا أن حماية الحقوق تستلزم مبادئ تأسيسية فوق الأغلبية. لقد ظلّ الدستور الأميركي، عبر التعديلات والإصلاحات، قادرًا على استيعاب الحقوق المدنية، حركات النساء، ونضالات الأقليات، ليصبح إطارًا متجددًا يحمي الدولة من التفكك. وحتى مع صعود ترامب واليمين الشعبوي، بقيت هذه المبادئ بمثابة شبكة أمان.لكن المفارقة الصادمة أن بعض السودانيين في المهجر، الذين يتمتعون اليوم بحماية هذا الدستور العلماني وبمواطنة متساوية لا تُسأل عن الدين أو العِرق أو القبيلة، هم أنفسهم الذين يطالبون بأن يُدار السودان بدستور ثيوقراطي أو شعارات مبهمة مثل “المدنية”. هنا، ينعمون بحقوق لا تُنتقص، وهناك يريدون إعادة إنتاج امتيازات تاريخية تضعهم فوق غيرهم من أبناء الوطن. هنا، يستظلون بدستورٍ يمنع أي شكل من أشكال التمييز، وهناك يتواطؤون مع عنصرية تضع الآخر دومًا في خانة “التابع” أو “المواطن من الدرجة الثانية.”هذه الازدواجية ليست مجرد تناقض فكري، بل نفاق سياسي وأخلاقي فاضح: التمتع بالمواطنة الكاملة هنا، والسعي لإدامة المواطنة الناقصة هناك. وما حدث من دمار في السودان يجب أن يكون كافيًا لإنهاء هذا “اللّف والدوران” إلى الأبد.السودان… والحاجة إلى تأسيس جديد:الحرب الأهلية في السودان ليست مجرّد نزاع مسلّح بين فصائل متناحرة؛ إنها صراع على سؤال أعمق وان كان عند البعض لايزال في طور ماقبل الوعي وهو: ما معنى المواطنة؟ ومن يملك الحق في الأرض والثروة والدولة؟ منذ أكتوبر 1964، مرورًا بأبريل 1985، وصولًا إلى ديسمبر 2018، أعادت النخب السودانية إنتاج نفس المشهد: انتفاضات شعبية تفتح الأفق للتغيير، ثم تسويات فوقية تحفظ المركز وتُبقي على بنية التهميش. لم تجرؤ هذه النخب يومًا على إعادة تعريف الوطن أو صياغة عقد تأسيسي جديد يقطع مع جذور الأزمة.الدروس المستفادة من التجربة الأميركية لا يجب ان تكمن في طلب “المساعدات الإنسانية” أو “اللوبيات المبعثرة بلا أهداف استراتيجية”، بل في المبادئ التأسيسية التي جعلت الولايات المتحدة تنهض من حربها الأهلية لتصبح دولة قائمة على عقد اجتماعي متجدد. جوهر هذه الدروس يتمثل في:– العلمانية كشرط لبناء مواطنة متساوية، لا يعلو فيها دين على آخر– اللامركزية/الفدرالية كضمان لتوزيع عادل للسلطة والثروة بين الأقاليم– حقوق الأقليات كمقياس لمدى عدالة الدولة، لا مجرد ملحقات شكلية– الديمقراطية التشاركية التي تمنح المجتمعات المحلية صوتًا حقيقيًا، لا أن تحتكر النخب القرار باسمهاهذا هو الدرس الذي قدّمه أبراهام لنكولن حين أعلن أن الأمة لا يمكن أن تبقى نصفها حرة ونصفها مستعبدة. لم يرَ في الحرب مجرد “نزاع داخلي”، بل اعتبرها اختبارًا وجوديًا لمعنى الأمة ذاتها. وكما اسلفنا، فريدريك دوغلاس، العبد السابق والمفكر الكبير، حذّر من أن الحرية بلا مساواة تُعيد إنتاج العبودية بأشكال جديدة. لقد أدركا معًا أن السلام الحقيقي لا يقوم إلا على إعادة تعريف الوطن وفق مبادئ العدالة والمساواة.وبذلك، فإن أي عمل لوبي نقوم به في الولايات المتحدة، أو أي طلب لمساعدات إنسانية، يظل بلا معنى إن لم يكن مؤسسًا على رؤية استراتيجية واضحة تنطلق من القيم نفسها التي جعلت أميركا تخرج من حربها الأهلية أكثر قوة وتماسكًا: العلمانية، المساواة، اللامركزية، وحماية حقوق الأقليات. فالمسألة ليست مجرد “كيف نضغط” أو “كم نطلب”، بل لأي مشروع وطني نضغط ونطلب.وهنا تكمن المفارقة الصارخة: نحن السودانيون الذين نعيش اليوم تحت حماية دستور علماني يضمن لنا المواطنة المتساوية ويصون كرامتنا بلا سؤال عن ديننا أو قبيلتنا، كيف نقبل أن نطالب لوطننا الأم بدستور يقوم على الامتيازات التاريخية أو الهويات المغلقة؟ إن لم يكن دورنا أن نُحوّل اللوبي إلى أداة تأسيسية تُلهم مشروعًا لبناء دولة سودانية جديدة، على شاكلة ما ألهم دستور 1787 والتعديلات اللاحقة التي وسّعت دائرة الحقوق في أميركا، فما معنى وجودنا هنا إذن؟إن الواجب الاستراتيجي هو أن يكون كل ضغط سياسي وكل مساعدة إنسانية جزءًا من مشروع تأسيسي يعيد تعريف السودان، لا مجرد إغاثة مؤقتة تُبقي على المرض كما هو.من “توافق” مشبوه إلى عقد تأسيسي جديد:وهكذا، فإن المدخل الصحيح لأي مشروع وطني سوداني لا يبدأ من أدوات الإغاثة أو شعارات التوافق المسطحة، بل من تعريفٍ صريح للمنطلقات والمبادئ التي تؤسس للدولة الجديدة. والتاريخ الأميركي هنا يقدّم درسًا صارخًا: حين حاولت النخب السياسية الأميركية قبل الحرب الأهلية (1861–1865) أن تدير الأزمة بين الجنوب والشمال عبر صفقات “توافقية”، كان الهدف الحقيقي للنخب الجنوبية هو حماية ثروتها “البشرية” المتمثلة في ملايين العبيد. “تسوية ميسوري” عام 1820، و”تسوية 1850″، و”قانون كانساس–نبراسكا” كلها كانت محاولات لتسكين الصراع، لكنها في جوهرها كانت إرجاءً للمواجهة الحقيقية حول معنى المواطنة. المؤرخ ديفيد بلايت يصف هذه المرحلة بأنها “تاريخ من التوافقات التي فشلت لأنها لم تواجه جوهر المعضلة”: هل يمكن لأمة أن تقوم على مبدأ المساواة بينما تُبقي على مؤسسة العبودية؟ لقد أراد مالكو العبيد في الجنوب الحفاظ على امتيازاتهم الاقتصادية والسياسية باسم “التوافق”، بينما كان الشمال – ومعه أصوات التحرريين من السود والبيض – يدرك أن هذا التوافق مجرد خداع لفظي يمدّد عمر الظلم. الرئيس إبراهام لنكولن لخّص المعضلة بوضوح حين قال: “أمة منقسمة على نفسها لا يمكن أن تصمد”. لم يكن الاستقرار ممكنًا من دون حسم جذري لمسألة المواطنة والحرية.من هنا، فإننا كسودانيين – خصوصًا في المهجر الأميركي – ينبغي أن نقرأ هذه التجربة بوعي. تعبيرات مثل “التوافق” حمالة أوجه، وقد تُستخدم اليوم كما استُخدمت في أميركا القرن التاسع عشر: غطاءً لإدامة امتيازات النخب على حساب العدالة. السودان، مثل أميركا آنذاك، يعيش أزمة تعريف للأمة: هل هي دولة مواطنة متساوية بلا تمييز ديني أو اثني أو جهوي، أم أنها دولة امتيازات مقنّعة تُدار باسم “الوحدة” و”الاستقرار”؟الحجة التاريخية صارخة: لا استقرار بلا عدالة، ولا وحدة بلا مساواة. أي مشروع وطني سوداني جاد لا بد أن يبدأ من عقد تأسيسي جديد يضع أسس لقيم العلمانية، والعدالة التاريخية، واللامركزية، قبل أن يتحدث عن “التوافق” أو “الاستقرار.”إذن، إذا كان للسودانيين الأميركيين دور فاعل بإيجابية في تقديري، فهو أن يساهموا في صياغة رؤية تأسيسية مستندة إلى هذه القيم التي خبروا أثرها في الدستور الأميركي العلماني – لا أن يكتفوا بإدارة نقاشات إنسانية عامة حول الإغاثة. فالإغاثة لن تُنقذ السودان ما لم تتغير بنية الدولة نفسها، والسلام لن يصمد إن لم تُعالج جذور التهميش.إن تشكيل مجموعة الأمريكان السودانيين يجب أن يكون نقطة انطلاق نحو خطاب تأسيسي جريء، يضع العلمانية، والعدالة، واللامركزية/الفدرالية في قلب أي مشروع لبناء لوبي استراتيجي ومنتج، لا مجرد شعارات توافقية سطحية. بهذا وحده نكون قد تعلمنا شيئا من تجربة أميركا التي نعيش في كنفها، وأوفياء لوطن يحترق لكنه لا يزال قادرًا على النهوض إذا ما وُضعت أسس جديدة لبنائه.النضال مستمر والنصر اكيد.(أدوات البحث والتحرير التقليدية والاليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)The post السودانيون الأميركيون وتجربة الحرب الأهلية الامريكية كدرس بليغ: مدخلات خاطئة… أم منطلقات تأسيسية؟ appeared first on صحيفة مداميك.