د. نازك حامد الهاشمييشير مصطلح “روافع التنمية” إلى العوامل الأساسية والأدوات الاستراتيجية التي تمكن الدول من تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. ولا تقتصر هذه الروافع على التحسينات المادية أو الاقتصادية فحسب، بل تشمل أيضًا العوامل المؤسسية والسياسية والتعليمية والتكنولوجية التي تعزز من قدرة المجتمع على التطور وتحقيق رفاهيته. وتودي هذه الروافع دورًا حيويًا في الدول النامية مثل السودان، نظرًا للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجهها تلك الدول مثل محدودية البنية التحتية، وضعف نظم التعليم والتدريب، والتأثير السلبي لعدم الاستقرار السياسي على بيئة الاستثمار. ويمثل التعليم والتدريب دوماً حجر الأساس لبناء رأس المال البشري القادر على الابتكار والإنتاجية، وهو عنصر حاسم في أي استراتيجية تنموية مستدامة. كما تشكل البنية التحتية القوية، بما في ذلك النقل والطاقة والمياه، إطارًا يتيح تنشيط الاقتصاد وتسهيل حركة الأفراد والبضائع، وهو أمر بالغ الأهمية في السودان نظرًا لطبيعة المسافات الجغرافية المتباعدة والصعوبات اللوجستية. إضافة إلى ذلك، يُعد الابتكار والتكنولوجيا من روافع التنمية التي يمكن أن تعزز الإنتاجية وتفتح آفاقًا جديدة للاستثمار في قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة والخدمات. كما يمثل تمويل المشاريع وتسهيل الوصول إلى رأس المال للشركات الصغيرة والمتوسطة عاملًا مهمًا لدفع عجلة النمو الاقتصادي المحلي والوطني.أما الاستقرار السياسي والقانوني، فيمثل رافعة لا تقل أهميةً عما سبق ذكره، إذ أنه يخلق بيئة آمنة وشفافة للمستثمرين ويحد من المخاطر المرتبطة بالصراعات الداخلية أو الفساد المؤسسي. إن الحديث عن التنمية لا يمكن أن يقتصر على المؤشرات الاقتصادية أو البنية التحتية وحدها، إذ يجب النظر إليها ضمن منظومة متكاملة تشمل الأمن المجتمعي والاستقرار السياسي والمؤسسات الفعّالة والروافع التنموية التي تحول العقبات إلى مسارات حقيقية للنمو والازدهار. ويعتمد نجاح أي استراتيجية تنموية على قدرة الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص على تذليل العقبات وتعزيز التعاون بين الأطراف المختلفة، وتفعيل الروافع التي تضمن استخدام الموارد بشكل فعّال وعادل.وعلى مدى العقود الماضية، ظل الأمن الجماعي يشكل أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، إذ يعكس التعاون الإقليمي والدولي ضرورة للتعامل مع التهديدات العابرة للحدود وحماية مصالح الدول والشعوب على حدٍ سواء. ويستند هذا المفهوم على مبدأ أن أي تهديد لدولة عضو يُعد تهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الجماعي، ما يستدعي تدخلًا منسقًا لردع العدوان أو معاقبة المعتدي. وقد تطور هذا الإطار من التجارب الأولى لعصبة الأمم إلى آليات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وامتد ليشمل المنظمات الإقليمية بوصفها أدوات لحفظ السلام وتعزيز التنمية، بما يعكس قابلية الأمن الجماعي للتكيف مع الخصوصيات الإقليمية.ويكتسب الأمن الجماعي في السياق الأفريقي بعدًا مضاعفًا نظرًا لتشابك البنية الجغرافية والاقتصادية والسياسية للقارة. فوجود موارد استراتيجية مشتركة مثل الأنهار الكبرى، وعلى رأسها نهر النيل، والمنافذ البحرية الحيوية للتجارة العالمية، يجعل التعاون الإقليمي شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار وضمان التنمية المستدامة؛ إذ أن غياب هذا التعاون يؤدي إلى تحويل الموارد إلى بؤر صراع وتوترات سياسية تعمل على عرقلة خطط التنمية وتعطل إمكانات الاستثمار، في حين يوفر الأمن الجماعي آليات للتسوية السلمية وإدارة الموارد بشكل عادل ومستدام.غير أن التجربة العملية تكشف عن معوّقات عميقة في توظيف هذا المفهوم في بعض الدول، ومنها السودان. فعوضاً عن استثمار الأمن الجماعي كوسيلة لتعزيز الاستقرار وحماية المكتسبات التنموية، كثيرًا ما تم توظيفه بصورة سلبية في الصراع السياسي. إذ درجت قوى المعارضة (بمختلف توجهاتها السياسية) في فترات مختلفة من الحقب السياسية المتعاقبة منذ تكوين الدولة الوطنية، على الاستعانة بدول الجوار واستدعاء القوى الإقليمية كأدوات ضغط لإضعاف الحكومات القائمة، الأمر الذي أسهم في تحويل الأمن الجماعي من إطار للتعاون إلى ساحة للمساومات السياسية. وهذه المفارقة لا تُنتج سوى مزيد من الإضعاف للدولة الوطنية، حيث يتحول الأمن الجماعي إلى ورقة ضغط سياسية عوضاً عن أن يكون آلية لبناء الثقة وتعزيز الاستقرار. ونتيجة لذلك، تُستنزف موارد الدولة في إدارة أزمات داخلية وإقليمية متشابكة، وتُعطَّل خطط التنمية، وتتراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وتتسع ظواهر الفقر والبطالة وهجرة الكفاءات. وبذلك، يصبح المواطن هو الخاسر الأكبر، إذ تُعلق مصالحه الاقتصادية والاجتماعية بين خطاب وطني مُفرغ من مضمونه وبين مساومات سياسية ضيقة.وفي المقابل، يبرز الأمن الجماعي بوضوح حين يُوظف بصورة صحيحة قائمة على التعاون المسؤول والإرادة السياسية المشتركة بحسبانه ركيزةً للتنمية المستدامة، إذ أن الأمن الجماعي يوفر بيئة مستقرة تعزز من فرص الاستثمار ويتيح توجيه الموارد نحو قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية، ويضمن إدارة عادلة للموارد المشتركة على المستويين الوطني والإقليمي. ومن ثم، فإن الوطنية الحقيقية لا تتجسد في الارتهان للخارج، بل في بناء شراكات إقليمية متوازنة تعلي مصلحة الشعوب فوق الحسابات السياسية الضيقة، وتحوّل الأمن الجماعي إلى رافعة تنموية تدعم الاستقرار والرفاه على المدى الطويل.وتتعمق هذه الإشكالية عندما تتقاطع الموارد الاقتصادية والزراعية مع الصراعات السياسية. فعلى مدى العقود الماضية ظل السودان يُصنَّف بلدًا زراعيًا بالدرجة الأولى، غير أن الحروب والنزاعات المتكررة ألقت بظلالها الثقيلة على إنتاج المحاصيل الأساسية وأضعفت دوره الزراعي مثل القطن والذرة والحبوب والفواكه، ما أثر على قدرة الدولة على تلبية الطلب الداخلي والخارجي وتعزيز مكانتها في الأسواق الإقليمية والدولية. في الوقت ذاته، لم تعد بعض المنتجات الزراعية النقدية حكرًا على السودان، إذ تُنتج أيضًا في دول أخرى ذات ظروف مناخية مشابهة، ما زاد حدة المنافسة. ومن أمثلة ذلك محصول الصمغ العربي في السودان الذي يشكل نحو 70% من الإنتاج العالمي، غير أنه يُنتج أيضًا في دول أخرى، مما يقلل من السيطرة السوقية ويضعف القدرة على الحفاظ على الميزة النسبية. وعلاوة على ذلك، يُعد السودان من أكبر منتجي الكركدي في العالم، فيما يقلل الإنتاج المتنامي للكركدي في دول أخرى من حصة السودان في الأسواق العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، يحتل محصول السمسم موقعًا متقدمًا عالميًا، إلا أنه يتشارك الإنتاج مع خمس دول رئيسية أخرى، مما يزيد من المنافسة، ويجعل الحفاظ على الميزة النسبية تحديًا متناميًا. ومع تطور الاقتصاد واكتشاف الثروات التعدينية، بما فيها الذهب والمعادن الأخرى، أصبحت هذه الموارد نقاطًا مركزية للصراع الداخلي والإقليمي، إذ تجذب الاستثمارات الخارجية وتزيد من الطموحات الإقليمية للسيطرة على مناطق محددة.ومن اللافت أن الموارد المائية غالبًا ما تُغفل كعامل رئيسي في النزاعات، رغم ارتباطها المباشر بالزراعة والطاقة والنقل النهري، حيث يشكل نهر النيل المورد المائي الأساسي الذي يغذي معظم مناطق السودان، كما تؤدي الموانئ المطلة على البحر الأحمر دورًا حيويًا في حركة التجارة الدولية والنقل البحري، بما يؤثر مباشرة على الأمن الغذائي والاقتصادي للشعب، ويضاعف أهمية إدارة هذه الموارد بشكل استراتيجي لضمان الاستقرار وتعزيز التنمية المستدامة ولا يقتصر تأثير هذا التداخل الإقليمي في الموارد الطبيعية والزراعية على المنافسة الاقتصادية، بل يمتد ليشكل عاملاً سياسيًا واستراتيجيًا، حيث يرتبط التحكم بالموارد بالقدرة على التأثير في مسارات التنمية الوطنية، ويؤثر في استقرار المجتمعات المحلية. وفي ظل غياب إدارة فعّالة وآليات تعاون إقليمي متوازن تزداد هشاشة الدولة أمام الضغوط الداخلية والخارجية، ويصبح المواطن الأكثر تضررًا من تعطيل المشاريع التنموية، وتراجع الاستثمارات وهجرة الكفاءات، فضلاً عن تفاقم الفقر وانعدام العدالة الاجتماعية.كل هذه العوامل وغيرها – مثل النزاعات حول الموارد الزراعية والاكتشافات المعدنية والتنافس الإقليمي على المياه – تتعارض بشكل مباشر مع مبادئ الأمن الجماعي والإقليمي، الذي يفترض التعاون المشترك بين الدول لتحقيق الاستقرار والسلام. فغياب الأمن الجماعي يجعل السودان عرضةً للاستغلال الداخلي والخارجي على حدٍ سواء، ويعقد جهود التنمية المستدامة، ويزيد من هشاشة المجتمع أمام تفاقم الفقر والبطالة والنزاعات المتكررة.ومن هنا تتضح أهمية فهم طبيعة ونوعية الصراع في السودان والدول النامية، إذ يصبح الوعي لدى الشعب حول المخاطر المرتبطة بالنزاعات أمرًا أساسيًا لحماية المجتمع واستقرار الوطن. كما يحتاج السياسيون إلى إدراك هذا الوعي لاتخاذ قرارات رشيدة توازن بين المصالح الداخلية والإقليمية، وتحافظ على الموارد الوطنية، وتضع خططًا استراتيجية تضمن استدامة التنمية. فالهدم الذي يلحق بالبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة بالعنصر البشري، يصعب تعويضه أو إعادة بنائه بسرعة، إذ يحتاج رأس المال البشري المتضرر إلى عقود لاستعادة مهاراته وخبراته، بينما تتأثر الفرص الاقتصادية بشكل كبير. لذلك، لا يمكن أن تبدأ التنمية المستدامة إلا بعد استيعاب طبيعة الصراعات وإدراك آثارها، وضمان التوازن بين حماية المجتمع، وإعادة بناء المؤسسات، واستثمار الموارد بطريقة مدروسة تحمي المستقبل وتحقق الازدهار على المدى الطويل.ويتضح من ذلك أن الأمن الجماعي ليس مجرد غاية سياسية، بل رافعة أساسية للتنمية، إذ يربط بين السلام والاستقرار من جهة، وبين القدرة على تنفيذ المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتحسين رفاهية المجتمع من جهة أخرى. وبذا تصبح الوطنية الحقيقية أداة عملية لحماية الموارد وبناء شراكات متوازنة تعلي مصلحة الشعوب فوق الحسابات الضيقة. كما أن وعي السياسيين بخطورة التجاذبات الداخلية التي تهدد الأمن الجماعي يعد أمرًا بالغ الأهمية، إذ أن استغلال هذه التجاذبات قد يؤدي إلى خلق دولة هشة تصبح هدفًا سهلاً للطموحات الإقليمية، ويضعف من قدرة البلاد على الحفاظ على استقرارها وتنمية مجتمعها. ومن ثم، فإن تعزيز الأمن الجماعي وتعميق التعاون الوطني والإقليمي ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان التنمية المستدامة، وحماية مصالح الشعوب، وتأسيس قواعد راسخة للتقدم والرفاه على المدى الطويل.The post روافع التنمية والاستقرار السياسي عبر الأمن الجماعي في السودان appeared first on صحيفة مداميك.