الدكتور ألدوا أجُو دينغ-أكوي )مقدمةالعالم يشاهد السودان ينزف، كما يشاهد جنوب السودان يواجه حربًا أهلية خاصة به. وغالبًا ما تُوصف المأساتان بأنهما “غير مسبوقتين”، والواقع أنهما كذلك بالفعل. فكلاهما ليس وليد الدفاع عن أمن وطني، أو هوية جامعة، أو مصالح عليا، بل نتيجة صراعات سلطة مدمّرة، اختزلت الأوطان إلى رهائن في أيدي قادة متنازعين.في حالة السودان، يبدو تحديد جذور الصراع الحالي أكثر تعقيدًا. فبينما يمكن ردّ حروب جنوب السودان إلى صراع سافر على السلطة، فإن الحرب في السودان وُلدت من خيانة الثورة التي بشّرت السودانيين بالحرية والسلام والعدالة. ومن هنا، فإن ندائي ليس فقط إلى السودانيين، وإنما إلى الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، والآيغاد، والترويكا، وسائر الشركاء الإقليميين والدوليين: لا يمكن للعالم أن يترك السودان ليهلك في صمت. التحرك العاجل ضرورة إنسانية وسياسية.من الثورة إلى الحربفي أبريل 2019، انتفض الشعب السوداني ضد نظام إسلامي استبدادي دام ثلاثين عامًا بقيادة عمر البشير. في تلك اللحظة الثورية، تصدّر الجنرالان عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) المشهد، ووعدا بإنهاء الدكتاتورية، وتحقيق المصالحة مع الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان، وفتح الطريق أمام حكم مدني ديمقراطي.جاء اتفاق جوبا للسلام كرمز لهذا الأمل، لحظة نادرة جمعت بين الجيش والحركات المسلحة والمجتمع المدني. غير أن الوعد لم يُترجم إلى واقع. ففي أبريل 2023، اندلعت الحرب بين البرهان وحميدتي، موجّهةً السلاح نحو الأمة ذاتها التي أقسما على حمايتها. سقطت الثورة جانبًا، خمدت أصوات المدنيين، وأُعيد إشعال الانقسامات التي ظن السودانيون أنهم تجاوزوها. واليوم يقف السودان ممزقًا على خطوط إقليمية: شمال وغرب متباعدان، لا يربطهما سوى صدى “الله أكبر” في مدن مدمرة ومجتمعات مشرّدة.أزمة القومية والمعاناة الإنسانيةالسودان مهدد بفقدان ليس فقط سيادته، بل أيضًا إحساسه بالقومية الجامعة. القومية الحقة هي الخيط الذي يربط العرب والأفارقة، المسلمين والمسيحيين، في نسيج وطني واحد. لكن هذه القومية تعرضت للتشويه بفعل الطموحات الشخصية، والتفوّق العرقي، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. وهو ذات الداء الذي دفع جنوب السودان للانفصال عام 2011، والذي حذّر منه الدكتور جون قرنق حين دعا إلى “سودان جديد” يقوم على المواطنة لا على الاستبعاد.المأساة الكبرى ليست في صراع الجنرالين وحدهما، بل في أن الملايين من السودانيين المدنيين وقعوا ضحية حرب بلا معنى. مدن بأكملها دُمّرت. عائلات نزحت خالية الوفاض، وأطفال دُفنوا في قبور ضحلة على قارعة الطريق.قالت أم نازحة في دارفور: “هربنا بلا شيء. مات ابني في الطريق. دفنته بيدي في الرمل. أسألكم بالله: لماذا يدفع الأطفال ثمن جشع الرجال؟”يشكو طبيب في الخرطوم: “نُعالج الجرحى بلا دواء ولا كهرباء ولا طعام. نفقد مرضى كل يوم، ليس لأنهم ميؤوس منهم، بل لأن الحرب دمّرت مستشفياتنا.”أما الطالب الشاب الذي انقطعت دراسته، فيقول: “كنت أحلم أن أكون معلمًا. اليوم أنا لاجئ.”هذه الأصوات تختصر مأساة أمة بأكملها. المجاعة تطرق الأبواب: الأسواق خاوية، مخازن الغذاء منهوبة، والمساعدات الإنسانية محاصرة بالنيران. الأطفال، أمل السودان، يكبرون في المخيمات، حيث حلت الخيام محل المدارس، والخوف محل الضحك.تقديرات الأمم المتحدة مرعبة: ملايين النازحين، ملايين آخرين على شفا المجاعة، وأرواح لا تُحصى أُزهقت بالرصاص أو المرض أو الجوع. هذه ليست حربًا بين جيشين، بل حرب على الشعب السوداني ذاته.الخاتمة: نداء عاجل للمجتمع الدوليلا يجوز ترك السودان رهينة لجموح جنرالين. جرت محاولات للوساطة من الولايات المتحدة، والسعودية، وقطر، ومصر، والاتحاد الأفريقي، لكنها بقيت متعثرة. لقد حان الوقت لتدخل حاسم من مجلس الأمن الدولي، ومجلس السلم والأمن الأفريقي، والآيغاد، وجامعة الدول العربية.توصيات للعمل الفوري:1. فرض وقف شامل لإطلاق النار مدعوم بضمانات دولية وآليات مراقبة.2. إعادة انتشار القوات المسلحة وحصرها في مناطق تمركزها الأصلية، لتقليل المواجهة المباشرة وحماية المدنيين.3. إطلاق وساطة شاملة تضمن تمثيل أصوات المجتمع المدني، الشباب، النساء، والنازحين، إلى جانب القيادات العسكرية.رغم صعوبة هذا المسار، فإنه السبيل الوحيد لوقف نزيف الدم، ومنع مزيد من انهيار مؤسسات الدولة، وفتح الطريق أمام مصالحة وطنية حقيقية. السودان بحاجة إلى إعادة بناء على أسس جديدة: تحرر من هيمنة الإسلام السياسي، ومن العنصرية والإقصاء العرقي.لقد أثبت الشعب السوداني إرادته في السعي نحو السلام، لكن ما ينقصه هو شجاعة قيادته السياسية، وتدخّل المجتمع الدولي في اللحظة الحرجة. السودان اليوم يطلق نداء استغاثة: فهل يستجيب العالم؟———–*كاتب المقال: الدكتور الدو اجو دينق نائب رئيس وزراء السودان السابق (1986–1989)، ووزير حكومة، بخبرة 58 عامًا في الشؤون البرلمانية والحكم (1967–2025).The post حرب بلا هدف: دعوة لوقف إطلاق النار في السودان وانقاذ الوطن appeared first on صحيفة مداميك.