مولوغيتا غيبريهيوت بيرهي – أليكس دي والطوال الأشهر الـ20 الماضية، وتزامناً مع حروب عديدة تجتاح الشرق الأوسط، تحول الطرف الجنوبي للبحر الأحمر إلى مصدر قلق عالمي. ففي الأشهر الأولى وحدها من عام 2025، قامت الولايات المتحدة بإنفاق مليارات الدولارات على حملة عسكرية ضد الحوثيين باليمن، الذين استمروا في مهاجمة حركة النقل الدولية في الممر المائي الحيوي رداً على حرب إسرائيل في غزة. ومع ذلك، تجاهلت القوى الإقليمية والدولية إلى حد كبير أزمة متفجرة على الساحل الآخر للبحر الأحمر، في منطقة القرن الأفريقي، التي قد تتحول قريباً إلى صراع كبير.وتشمل الأزمة المذكورة الدولة الساحلية إريتريا، وجارتها الأكبر الدولة الحبيسة إثيوبيا، التي فقدت منفذها إلى البحر الأحمر إثر استقلال إريتريا عام 1993. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، قال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إن مسألة استعادة المنفذ إلى البحر الأحمر باتت مسألة وجودية لإثيوبيا. وأعلن صراحة أن على إثيوبيا السيطرة على عصب، الميناء الحيوي في جنوب إريتريا. وتصاعدت منذ ذلك الحين التوترات بين البلدين، وربما تستعد إثيوبيا راهناً لإرسال قواتها مباشرة إلى عصب التي لا تبعد أكثر من 60 كيلومتراً من الحدود الإثيوبية. وعلى رغم نفي آبي أحمد وجود خطط عند إثيوبيا لخوض نزاع مسلح، فإن الطرفين يقومان بشراء تجهيزات عسكرية، من ضمنها المسيرات الحربية والدفاعية والصواريخ، والمدافع الميكانيكية، والعربات العسكرية المخصصة للبيئات الصحراوية. وقاما أيضاً في الأسابيع الماضية بتحريك قوى عسكرية باتجاه الحدود قرب عصب، وراحا يتبادلان الخطاب العدائي.وبلا شك، ستكون معركة السيطرة على ميناء في البحر الأحمر خطرة. لكن ما يجعل هذا النزاع الوشيك أكثر خطورة حتى، هو إمكان تمدده سريعاً إلى منطقة تيغراي المضطربة في إثيوبيا، تلك المنطقة المحاذية لحدود إريتريا التي شكلت بين عامي 2020 و2022 مسرحاً لحرب مدمرة بين الحكومة الإثيوبية الفيدرالية في أديس أبابا، وبين “جبهة تحرير شعب تيغراي”. وفي أعقاب تلك الحرب – التي أزهقت حياة نحو 600 ألف شخص، بينهم مئات آلاف المدنيين، وخلفت تركة ثقيلة من التهجير والدمار – كان يفترض أن يقوم اتفاق السلام المبرم بتأسيس حالة استقرار جديدة في المنطقة. لكن منذئذ لم يجر تطبيق سوى قليل من بنود الاتفاق الذي أوقف الحرب. فالقوات الإريترية ما زالت موجودة في المنطقة، وأجزاء كبيرة من تيغراي جرى ضمها بحكم الأمر الواقع إلى منطقة أمهرة الإثيوبية المجاورة، وبقي أكثر من مليون نسمة من أبناء تيغراي المشردين عاجزين من العودة لديارهم. والأكثر إثارة للقلق في هذا السياق يتمثل في انقسام “جبهة تحرير شعب تيغراي” إلى فصائل متنافسة تقوم بعقد تحالفات متضاربة مع إثيوبيا وإريتريا، وبإنشاء أجنحة عسكرية منفصلة.وفي حال اندلاع القتال بين إثيوبيا وإريتريا، ستكون تيغراي مرة أخرى مسرحاً أساسياً للمعركة، مع عواقب قد تكون كارثية سواء لمنطقة تيغراي أم مجمل القرن الأفريقي، إذ يمتلك الطرفان جيشاً كبيراً حسن التجهيز ومستعداً لإنزال الأضرار الجسيمة بخصمه واستيعاب الخسائر على نطاق واسع. ومن شأن نزاع كهذا إن حصل أن يقضي على ما تبقى من سلام هش وهيكلية أمنية في المنطقة، كما بوسعه أن يجر الصومال والسودان إلى دوامة عنف واسعة على مستوى المنطقة ككل.لكن تلافي حرب جديدة أمر ممكن، إذ من خلال الضغط الدولي المناسب يمكن دفع الحكومة الإثيوبية إلى تطبيق بنود اتفاق السلام الموقع عام 2022، مما يشكل مطلباً مزمناً لأبناء تيغراي. كذلك على قادة تيغراي من جهتهم القيام بخطوات عملانية في هذا الإطار لتلافي تحولهم إلى بيادق في أي نزاع إثيوبي – إريتري أوسع، فلو تمكنت تيغراي من الحفاظ على حيادها، سيكون صعباً على آبي أحمد بالتأكيد أن يشن هجوماً بمفرده على ميناء عصب. في العقود الماضية، كان احتمال نشوب حرب كبيرة بمنطقة القرن الأفريقي يستنفر الدبلوماسيين في واشنطن وفي العواصم الأوروبية والأمم المتحدة، كما في الاتحاد الأفريقي. أما اليوم فإن القادة الغربيين مشغولون بقضايا أخرى، فيما المنظمات الدولية متعددة الجنسية تعيش حالة ضعف وتقهقر. اللاعب الوحيد المتبقي، الذي يتمتع بالقدرة على جمع لاعبين عدة على طاولة المفاوضات، هو الولايات المتحدة الأميركية.مبارزة الضغائنيعود دور تيغراي الرئيس في التوترات بين إثيوبيا وإريتريا لأعقاب الحرب التي اندلعت في هذه المنطقة، إذ عندما بدأت حرب تيغراي كانت إثيوبيا وإريتريا متحالفتين، وقواتهما تتعاون في محاولة إلحاق الهزيمة بـ”جبهة تحرير شعب تيغراي”. وقد سعى آبي أحمد في هذا السياق إلى فرض إرادته على “الجبهة”، التي رفضت حل نفسها والانضمام إلى حزبه الحاكم الجديد في أديس أبابا. أما الرئيس الإريتري أسياس أفورقي من جهته، فقد كن حقداً قديماً تجاه “جبهة تحرير شعب تيغراي”، ولم يكن مصمماً على حلها وحسب، بل أيضاً على إلحاق أكبر ضرر ممكن بتيغراي، فلا يعود بإمكان قوات هذه المنطقة أن تشكل تحدياً لإريتريا مرة أخرى. وقام الزعيمان بتشكيل قوات ميليشياوية من منطقة أمهرة الإثيوبية المجاورة، التي لسكانها أسباب خاصة تدفعهم إلى دخول النزاع، كونهم يسعون إلى ضم أجزاء من تيغراي يعدونها أراضي تابعة تاريخياً لأمهرة.وبعد سنتين من القتال المستعر، تخللهما حصار تسبب بالمجاعة في تيغراي، راح أبناء هذه المنطقة يطالبون بالسلام. وقامت الولايات المتحدة بجمع الحكومة الإثيوبية و”جبهة تحرير شعب تيغراي” على طاولة مفاوضات في بريتوريا، جنوب أفريقيا، برعاية وإشراف الاتحاد الأفريقي، وقد قام الجانبان بتوقيع اتفاق وقف دائم للأعمال العدائية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. بيد أن الاتفاق شابته عيوب عدة، فهو أولاً، وضع على عجل واتسمت آليات المراقبة والإنفاذ فيه بالضعف. ولم تقم الولايات المتحدة في هذا الإطار، على رغم اعتبارها “اتفاق بريتوريا” نصراً دبلوماسياً، بجهود كافية لإلزام الأطراف بتطبيق الاتفاق. كما تجاهل الطرفان الموقعان بنود الاتفاق عموماً، حتى أن تأمين المساعدات الإنسانية الأساسية لتيغراي بقي أمراً غير محقق.والأسوأ في هذه الحالة تمثل بفشل مفاوضات بريتوريا في ضم قادة إريتريا وأمهرة إلى العملية السلمية، الذين هم أيضاً أطراف أساسيون في النزاع، إذ افترض الوسطاء آنذاك أن قادة إريتريا وأمهرة سيتبعون ما يقرره آبي أحمد، إلا أن هؤلاء القادة سرعان ما اختلفوا معه. ففي مطلع عام 2023، أمر آبي قادة منطقة أمهرة بنزع سلاح ميليشياتهم المعروفة باسم “فانو” (FANO)، وبتحويل قواتهم الخاصة إلى شرطة مكافحة شغب، رفض الأمهريون ذلك. وعلى الإثر، في غضون أسابيع، قامت ميليشيات “فانو” بإطلاق حملة حرب عصابات ضد القوات الإثيوبية في مناطق واسعة من أمهرة، وهي مستمرة إلى اليوم، إذ تظهر في كل شهر تقارير عن عشرات الأشخاص، وأحياناً مئات، يقتلون في الاشتباكات، وعن مجازر ترتكب ضد المدنيين، وهجمات بالطائرات المسيرة، وهناك، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، نصف مليون مشرد يحتاجون إلى مساعدات عاجلة.وفي الأثناء شعرت إريتريا بأن اتفاق السلام لم يكن منصفاً لها، فالرئيس الإريتري أراد إكمال الحملة العسكرية حتى تدمير “جبهة تحرير شعب تيغراي” تدميراً نهائياً. كما أنه ارتاب من تطور العلاقات بين أديس أبابا وواشنطن، وتخوف من أن يكون “اتفاق بريتوريا” مصمماً لتهميشه. ومع تدهور العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، سعى كل طرف منهما إلى اعتماد سبل جديدة للضغط المتبادل. وقد شرعت أديس أبابا في هذا الإطار بدعم قوات المعارضة في إريتريا، فيما قامت أسمرة في المقابل بدعم قوات المعارضة في إثيوبيا، وهي أرسلت السلاح لميليشيات “فانو” في أمهرة. ثم أعلن آبي أحمد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 أن إثيوبيا لا تحتاج إلى منفذ إلى البحر الأحمر للأمن الاقتصادي فقط، بل هي تملك حقاً تاريخياً بميناء عصب. ولم يتضح إن كان كلام آبي هذا يندرج في محاولة فرض التنازل على إريتريا، أم أنه يعكس تفكيراً فعلياً عند الرجل للقيام بغزو عسكري.وفي مطلع 2024، هدأت التوترات إلى حد ما عندما وقعت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع صوماليلاند، المنطقة المستقلة ذاتياً عند سواحل خليج عدن، التي لا يحظى استقلالها عن الصومال باعتراف أي من الهيئات الدولية. بحسب مذكرة التفاهم المذكورة، وفي مقابل الاعتراف الرسمي باستقلال صوماليلاند، تحصل إثيوبيا على ميناء بحري في هذه المنطقة، مما يحقق مساعي آبي الهادفة إلى إعادة بلاده للساحل، إلا أن هذه الخطة انهارت بفعل معارضة شرسة من الصومال، التي ترفض منذ زمن استقلال صوماليلاند وتتخوف من هيمنة إثيوبيا على المنطقة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، قامت تركيا بالتوسط لعقد مصالحة بين أديس أبابا ومقديشو، فأعاد آبي أحمد إثر ذلك تركيزه على عصب.وإن قرر آبي خوض الحرب مجدداً، بوسع قواته، في المبدأ، الزحف مباشرة إلى عصب، التي تعد بعيدة من أسمرة ومن المراكز السكانية الأساسية في إريتريا. لكن بغض النظر عن نتائج تلك الخطوة، فإنها ستؤدي بالتأكيد إلى إثارة تحركات عسكرية في تيغراي، حيث للطرفين، الإثيوبي والإريتري، مصالح عميقة. في وسط المشهد هذا هناك “قوات الدفاع عن تيغراي”، الجيش الإقليمي القوي والكبير البالغ عديده 274 ألف جندي، المتشكل نتيجة اندلاع الحرب الضارية عام 2020، الذي يخضع للحكومة المحلية في تلك المنطقة التي تتحكم بها ميليشيات “جبهة تحرير شعب تيغراي”. ويقود “قوات الدفاع عن تيغراي” محاربون قدامى شاركوا في الحرب الماضية التي دارت بين عامي 1974 و1991، إضافة إلى عسكريين طردهم آبي من الجيش الوطني الإثيوبي، ومتطوعين جدد آخرين. وهكذا يمكن القول إن أديس أبابا وأسمرة تسعيان الآن إلى بناء وتعزيز حضورهما في تيغراي، بما في ذلك حضورهما في أوساط “قوات الدفاع عن تيغراي”.الصدع العظيموفي خضم هذه التوترات بين إثيوبيا وإريتريا، تتداعى حالة الاستقرار الهشة في تيغراي وتنهار. إذ على رغم عيوبها العديدة كانت الإدارة الانتقالية التي ترأستها “جبهة تحرير شعب تيغراي” في عاصمة الإقليم، ميكيليه، والمتشكلة إثر “اتفاق بريتوريا”، قد احتضنت مبدأ إنهاء الحرب، وسعت إلى بناء الاستقرار في المنطقة، فإرث الحرب كان ثقيلاً. مدن وبلدات تعرضت للنهب والتدمير، وسكان عانوا الجوع والتشريد، ومدارس ومستشفيات خارج الخدمة. المهمات المنتظرة كانت جسيمة جداً، وقد بدا لبعض الوقت أن الإدارة المحلية الموقتة تباشر في معالجة تلك المسائل.لكن ما ثبت بعد ذلك هو أن الوحدة في تيغراي مجرد وهم، فـ”جبهة تحرير شعب تيغراي” سرعان ما انقسمت إلى فصائل متنافسة، وقام فصيل منها يترأسه القائد السابق للجبهة دبرتسيون غيبريمايكل، بالتحالف مع أسمرة، فيما قام فصيل آخر يقوده غيتاتشو ريدا، بالتحالف مع أديس أبابا. كذلك حل الانقسام في القيادة العليا لـ”جيش الدفاع عن تيغراي”، الطرف الذي بقي بمنأى عن الانقسمات السياسية، وذلك مع تولي القائد العام لهذا الجيش تاديسي وريدي رئاسة حكومة الإقليم. ويقف خلف الفصيل الذي تحالف مع إريتريا رجل أعمال مغترب من تيغراي، داويت جيبريغزيابهر، الذي زار أسمرة في مناسبات عديدة. وهناك أيضاً آخرون من كوادر “جبهة تحرير شعب تيغراي” – وجنرالات من “جيش الدفاع عن تيغراي” وفق بعض التقارير – قاموا بالتباحث مع أسمرة والتواصل والتنسيق معها.الدوافع وراء انفتاح أطراف من تيغراي على إريتريا لا تزال غير واضحة تماماً، بعضهم يبرره كخطوة للابتعاد من إثيوبيا وتحقيق استقلال تيغراي، بينما يرى آخرون أن تخلي أديس أبابا عن الإقليم يستدعي التعاون مع الناطقين بلغة التيغرينية في إريتريا على الجانب الآخر من الحدود. أما الموقف الرسمي لـ”جبهة تحرير شعب تيغراي”، فهو أن لها الحق في التعامل مع أي طرف يسهم في تعزيز مصالح أمن تيغراي. من جهتها، رحبت إريتريا بحلفائها الجدد من تيغراي، إذ يخدم ذلك مصالحها في إضعاف وحدة الإقليم وبناء تحالف عسكري جديد ضد إثيوبيا.الاستقرار الهش في تيغراي ينهار وسط التوترات بين إثيوبيا وإريترياتحت وطأة الانقسامات المتزايدة بين الفصائل المتعارضة، يتعرض النظام السياسي في تيغراي للانهيار. ويشتبه كثيرون في أن تكون الانقسامات المتصاعدة بين قادة تيغراي ناتجة من صفقات فساد، إذ منذ نهاية الحرب ترسخت في الإقليم حمى الذهب، وتشهد أجزاء من المنطقة اليوم عمليات واسعة لحفر المناجم واستخراج المعادن وفق الطرق الحرفية. وتتجمع في السياق ثروات شخصية عبر مشاريع التعدين والمناجم المرخصة وغير المرخصة، وعبر أنشطة التهريب، والبيع للبنك المركزي في إثيوبيا الذي يعاني نقصاً في العملة الصعبة وسط الانهيار الاقتصادي المتواصل في البلاد. وبالتزامن غدت حدود تيغراي مناطق خارجة عن القانون، إذ وثقت الإدارة الموقتة في الإقليم أدلة على الاتجار بالبشر، لكنها لم تنشرها بعد. كما أفادت العيادات الطبية بوصول عشرات الناجين من الاعتداءات الجنسية يومياً، وغالباً ما يكونون من مناطق لا تزال تحت سيطرة القوات الإريترية.وفي الأثناء يجري بطريقة علنية الاستهتار بأحكام وبنود “اتفاق بريتوريا”، فقوات أمهرة التي احتلت معظم مناطق غرب تيغراي وشمال غربيها لم تنسحب منها، وتحتفظ إريتريا بخطوط دفاعية داخل أراضي تيغراي. ويبقى أكثر من 1.5 مليون نسمة مشردين، يعيشون في المخيمات أو يمكثون في المباني العامة. كما تبقى المدارس مغلقة، ولم تجر بعد عمليات ترميم وإعادة بناء العيادات الطبية وشبكات المياه، هذا وتظل رواتب القطاع العام معلقة وغير مدفوعة. إذ إن أكثر من 200 ألف جندي من عناصر “قوات الدفاع عن تيغراي” ما زالوا اليوم محرومين من برامج وتعويضات التسريح، أما مصابو الحرب من عناصر هذا الجيش فما زالوا مفتقرين إلى أبسط خدمات العلاج وإعادة التأهيل.ويتفشى الجوع في أنحاء تيغراي، المشكلة التي فاقمها الانخفاض الحاد في المساعدات الإنسانية الأميركية المقدمة عبر “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية”. ففي عام 2022، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 50 في المئة من المساعدات الإنسانية الدولية الممنوحة لإثيوبيا والبالغة قيمتها 2.3 مليار دولار. أما هذا العام وبموازاة تصاعد الأزمة الإنسانية، لم تتلق البلاد سوى 6.7 في المئة من المبلغ المتقلص سلفاً الذي وعدت به الأمم المتحدة والبالغ 612 مليون دولار، تزامناً مع التجميد العملي للمساعدات الأميركية.هذا الوضع الفوضوي الذي تعانيه المنطقة جعل مسألة العودة للاقتتال أمراً أكثر احتمالاً، إذ ليس من الصعب أن نجد في تيغراي اليوم جنوداً حاليين وسابقين يتوقون لحمل السلاح مجدداً لكسر مما يراه عديدون حلقة مفرغة ودوامة يائسة. ومن شبه المؤكد أن أية حرب جديدة في تيغراي لن تقود إلا إلى مزيد من سفك الدماء والدمار والجوع، لكن هذه المرة من دون أي مسار واضح لتحقيق السلام وإعادة الإعمار.واشنطن، وليس الحربعلى رغم المشكلات الكثيرة في المنطقة لا ينبغي أن تشكل مهمة إبقاء تيغراي خارج نطاق أي نزاع مستقبلي، مهمة صعبة. أحد أسباب هذا الأمر يتمثل في إمكان أن ترفض تيغراي ببساطة الانحياز لأي من طرفي الأزمة الإثيوبية – الإريترية. ولدى الفصائل والأجنحة المتنافسة ضمن “جبهة تحرير شعب تيغراي” مصلحة مشتركة في تفادي أي اقتتال داخلي قد يلحق الضرر بها جميعاً، فهذه الفصائل على رغم تحالفاتها السياسية التكتيكية مع هذا الطرف أو ذاك، يمكنها صوغ موقف مشترك واعتماده لتجنب المشاركة في حرب واسعة النطاق وعابرة للحدود.وأبناء تيغراي في الواقع يتمتعون بقدر كبير من التأثير والنفوذ تجاه أديس أبابا وأسمرة، إذ ليس لدى إثيوبيا وإريتريا أي سبب وجيه اليوم لمباشرة نزاع بينهما من دون تلقي دعم من طرف مسلح قوي في تيغراي، كما لا قدرة لأي من البلدين المذكورين على تحمل أعباء حرب طويلة إن بقيت تيغراي متمسكة بحيادها. الحرب بين إثيوبيا وإريتريا على ميناء عصب ستكون بمثابة عراك على مشط شعر بين أصلعين. إذ لو نجحت إثيوبيا في السيطرة على الميناء، فإنها بتلك الخطوة ستنتهك القانون الدولي وتجبر شركات النقل الدولية على تجنب استخدام الميناء المذكور، كما أنها ستسبب العزلة لحكومتها التي تعتمد منذ زمن بعيد على دعم غربي حيوي وواسع النطاق. إلى هذا، فإنه من غير الواضح إن كان الاستيلاء على عصب سيعزز سلطة آبي أحمد. إذ في هذه الزاوية من صحراء داناكيل ما من خيارات عسكرية تقليدية أمام إريتريا سوى الدفاع، لكن أيضاً حتى لو فقدت إريتريا هذا الميناء لن يكون صعباً عليها إيجاد مجموعات إثيوبية ساخطة في الداخل للقتال ضد أديس أبابا وإغراق إثيوبيا أكثر في جو من الاضطرابات وعدم الاستقرار.إلى جانب تلقي المساعدات الإنسانية التي تعوزها بشدة، فإن الحاجة الحقيقية لكل من تيغراي وإثيوبيا تكمن في تنفيذ بنود اتفاق بريتوريا، فشروط الاتفاق ليست صعبة أو معقدة: انسحاب قوات أمهرة، واستعادة الحدود الإدارية لما قبل الحرب في تيغراي، وعودة النازحين لمناطقهم الأصلية، وفتح حوار سياسي يمكن تيغراي من إيجاد مكان لها في السياسة الوطنية الإثيوبية. ومع ذلك، لم تنفذ هذه الخطوات قط، لأن الطرف الأقوى في الاتفاق – الحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد – لم يتعرض لأي ضغط لتنفيذ ما وعد به رسمياً.وهنا ينبغي القول إن الحكومات الغربية والقوى الإقليمية قادرة على القيام بأمور كثيرة لتبديل هذا المشهد، فإثيوبيا تلقت عام 2024 وحده مليارات الدولارات في إطار مساعدات خارجية وعمليات تمويل ميسرة، وبوسع الحكومات المانحة في هذا الإطار أن تقوم باشتراط تسليم مبالغ المساعدات الإضافية المنتظرة، بتنفيذ حكومة آبي ما سبق ووعدت بتنفيذه. والإدارة المحلية في تيغراي من جهتها تحتاج إلى موارد، كي تلبي حاجة شعبها إلى المساعدات وإعادة الإعمار. هكذا وبضغوط حقيقية من واشنطن ستكون أديس أبابا والإدارة المحلية في تيغراي قادرتين على تهميش الأطراف والفصائل غير المسؤولة، والساعية إلى استغلال الوضع والاستفادة منه. إن تمكنت إدارة ترمب من تحقيق صفقة كهذه، سيمثل الأمر انتصاراً دبلوماسياً حقيقياً يعود بفوائد بعيدة المدى للقوة الأميركية، ويجدد الازدهار في تلك المنطقة التي انهكتها الحروب.مهما كانت نتائج التوترات الراهنة، يبقى أمام تيغراي مسار طويل للتعافي. إذ إن عمليات إعادة إعمار هذه المنطقة ستتطلب في النهاية جهوداً متواصلة لإعادة بناء المؤسسات المسؤولة وإحياء المجتمع المدني، فضلاً عن ترميم الأسس الاقتصادية الضرورية لتوفير الاستقرار الدائم. لكن أي من هذه الأمور لن يكون ممكناً إن اندلعت حرب أخرى، لذا فإن المهمة الأكثر إلحاحاً اليوم تتمثل بمنع وقوع ذلك._____________مولوغيتا غيبريهيوت بيرهي هو باحث بارز في “مؤسسة السلام العالمي” بكلية فليتشر، جامعة تافتس، والمؤسس والمدير لمركز دراسات السلام والأمن في جامعة أديس أبابا.The post إثيوبيا ومعضلة تيغراي …. وحدها أميركا تستطيع منع حرب جديدة في القرن الأفريقي appeared first on صحيفة مداميك.