أزمة السودان الإنسانية إلى أين؟

Wait 5 sec.

د. أماني الطويلحضرت قبل أيام ورشة عمل، قامت بها منظمتان، إحداهما مصرية، والأخرى سودانية؛ بشأن انعكاس أزمة التمويل على الأزمة الإنسانية التي يعاني منها السودانيون، طبعا بالتركيز على مصر، باعتبارها الدولة الأعلى الراعية لملايين السودانيين بمختلف فئاتهم الاجتماعية.وفي ضوء هذه الورشة، يمكن ملاحظة عدد من الأمور، منها طبيعة الضغوط التي يعاني منها اللاجئ السوداني، والتي تساهم بشكل فعال في عملية خلط الأوراق في تعبيره عن أزمته وطبيعة احتياجاته في مصر، ومنها ضعف التكيف في المجتمع المصري، وكذلك عدم الإلمام بالبيئة القانونية والاجتماعية التي يعيش فيها، كما أن افتقاد القدرة على النفاذ لأسواق العمل في بلدان اللجوء، يصعب ظروف المعيشة، ويزيد من الضغوط على العاملين بالخارج من السودانيين الذين يقومون بتمويل جزء من احتياجات غير العاملين في بلدان المهاجر.في هذا السياق، يتم الخلط مثلا بين اللاجئ القانوني المسجل في مفوضية اللاجئين، وبين المقيم في مصر بفيزا سياحية، تتطلب تصريح الإقامة وتجديدها، وذلك ضمن أنواع متنوعة من فيزا الدخول التي تصل إلى ثمانية متغيرة المتطلبات والشروط، وأيضا لا يبدو أن هناك إدراكا كافيا بطبيعة المصاعب الاقتصادية التي تواجهها مصر، والتي تنعكس على مواطنيها وعلى اللاجئين إليها، ونتيجة ضعف هذا الإدراك بتراكم غضب واحتقان وألم، لا بد من الانتباه له والتعامل معه، حيث كان من المتوقع أن يساهم قانون اللجوء المصري المعلن قبل أكثر من عام في تخفيف هذه الحالة والتعامل معها، لكن للأسف لائحة القانون التنفيذية قد تأخرت كثيرا، وبالتالي تسير أوضاع اللاجئين في مصر إلى تفاقم غير مأمون العواقب.وقد يكون من الضروري الإشارة في هذا المقام إلى مجهودات المنظمات السودانية في مصر التي نشطت في جمع التبرعات داخل مصر؛ من أجل تمويل الاحتياجات الملحة في السودان من غذاء ودواء، واستطاعت بنجاح أن تمول احتياجات بعض التكايا، خصوصا في دارفور.وربما يكون من الضروري التعرف على ملامح الأزمة الإنسانية المتفاقمة في السودان، والتي تجعل الإسراع بإقرار هدنة إنسانية أمرا مطلوبا بإلحاح، ومتقدم عن أية مطالب أخرى، لأن هذه الهدنة إذا كانت سوف تغيث البشر، فإنها ربما تساهم في تقريب المواقف السياسية بين أطراف الصراع، بما يجعل الوصول إلى محطة وقف إطلاق النار أمرا ممكنا.حاليا، يمثل السودان اليوم أكبر أزمة نزوح في العالم، وإحدى أخطر الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. فقد أدى الانهيار المؤسسي والصراع العسكري إلى واقع كارثي، حيث يحتاج أكثر من 30 مليون شخص إلى المساعدة، منهم 20 مليون شخص على الأقل في مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فقد بلغ حجم النازحين أكثر من 10 ملايين شخص، بينما تجاوز عدد اللاجئين 2.5 مليون نسمة عبروا الحدود إلى دول الجوار.ورغم هذا النطاق الهائل للأزمة، فإن تمويل حجم الاستجابة الإنسانية لها محدود للغاية من جانب المجتمع الدولي المشغول بصراعات أخرى، بما جعل الإنسان السوداني ومجاعته وانعدام أمنه أمرا منسيا تقريبا.وطبقا لهذا الموقف الدولي الغير إنساني، تتعدد أبعاد الأزمة السودانية، وتتفاقم بشكل مباشر؛ نتيجة للفجوة التمويلية الهائلة، من جانب الدول الكبرى التي سبق وأن وعدت بالتمويل، ولكنها لم تف بهذه الوعود، حيث تفتقر منظمات الأمم المتحدة الإغاثية، وكذلك مفوضية اللاجئين، إلى ما يجعلها قادرة على مساعدة المحتاجين في السودان وخارجه، فمن الناحية الغذائية، أصبحت بعض المناطق في دارفور وكردفان جيوب مجاعة غير معلنة رسمياً؛ بسبب غياب القدرة على التقييم. وأدى نقص التمويل إلى الاضطرار لممارسة خفض للحصص الغذائية بنسبة تصل الي ٥٠٪، مع استبعاد مكونات أساسية مثل الزيوت والبقوليات، كما يواجه عشرات الآلاف في مدينة الفاشر المحاصرة خطر الموت جوعاً، إذا لم يتم كسر الحصار عن المدينة، أو تصلها إغاثات ضخمة، ربما تصل بعد التطورات الأخيرة من جانب المنظمات الدولية بالتعامل مع الدعم السريع لتحقيق هذا الغرض.أما القطاع الصحي السوداني، فقد شهد انهياراً كارثياً، حيث توقفت أكثر من 70% من المرافق الصحية عن العمل على المستوى المحلي. وقد أسهم ذلك بشكل مباشر في تفشّي الأوبئة، حيث تنتشر حاليا الكوليرا في 12 ولاية سودانية، إضافة إلى انتشار واسع للملاريا وحمى الضنك، بما اضطر السلطات المحلية لإغلاق مؤقت للمدارس.وبطبيعة الحال، تتفاقم المأساة بين الفئات الأكثر ضعفاً، إذ تحذر منظمة اليونيسف، من أن مئات آلاف الأطفال معرضون للموت؛ بسبب سوء التغذية الحاد ونقص اللقاحات، بينما حذر صندوق الأمم المتحدة للسكان من أن النساء الحوامل محرومات من خدمة الولادة الآمنة.على صعيد التعليم، هناك نحو 19 مليون طفل خارج المدرسة، منهم من هم موجودين في مصر، لا يرتادون المدارس؛ بسبب عسر الأحوال الاقتصادية، وهو الأمر الذي يعني بشكل عام خسارة جيل كامل، وزيادة مخاطر تعرض الأطفال لـلانخراط في التجنيد القسري على المستوى المحلي، بينما يشكل في مصر مخاطر كبيرة من دخول هؤلاء في أنشطة مخالفة للقانون، حيث تكثر حملات التوقيف الأمني، وربما الحبس للمراهقين السودانيين.وطبقا لهذه المعطيات، فإن الاحتياجات التمويلية للأزمة الإنسانية السودانية تقدر طبقا لتقارير الأمم المتحدة بنحو ٦ مليارات دولار في عام ٢٠٢٥ وحده، ٧٥٪ منها مطلوبة للداخل السوداني، بينما ٢٥٪ منها مطلوبة للاجئين في المهاجر.هذه الاحتياجات لم يتم تلبيتها إلا بنسبة ١١٪ فقط من احتياجات مفوضية اللاجئين، بينما تواجه منظمة اليونيسف فجوة تمويلية بمقدار ٦٠٪، كما جاءت مساهمات المانحين الرئيسيين غير كافية، حيث خصص الاتحاد الأوروبي 160 مليون يورو، وهو أقل من 3% من المطلوب، بينما قلّصت الولايات المتحدة مساهماتها مقارنة بالسنوات السابقة.في المقابل، قدمت دول الخليج مساعدات متقطعة، مفتقرة لآلية مستدامة.وهكذا، فإن الأثر الفوري لنقص التمويل الإنساني للأزمة السودانية المترتبة على الحرب، يبدو مدمراً، حيث أدى إلى تفاقم سوء التغذية وانهيار المنظومة الصحية، وتآكل ثقة المجتمعات اللاجئة بالمنظمات الدولية، بالإضافة إلى الضغط على الدول المجاورة، خصوصا مصر، حيث يظل التمويل هو رمانة الميزان بين استمرار الانهيار أو بدء التعافي. ذلك أن استمرار فجوة التمويل (السيناريو الأول) يعني دخول مناطق عدة في المجاعة، وانهيار الخدمات وتوسع النزوح الداخلي واللجوء الخارجي لدول الجوار، بينما تحسن التمويل (السيناريو الثاني) يتيح استعادة البرامج الأساسية للتعامل مع الأزمة وممارسة الدعم الإنساني. لذا فإنه ربما يكون من المطلوب تنشيط حملات مناصرة الاستجابة للأزمة الإنسانية السودانية من جانب الدول المانحة، وزيادة التمويل المرن وغير المشروط، وكذلك ضمان استدامته لمدة لا تقل عن خمس سنوات متتالية. وعلى الحكومة السودانية والدول الإقليمية تسهيل وصول المساعدات، والعمل على فتح ممرات آمنة، حيث أن هناك مسئولية على القاهرة، أن تقدم مبادرات سريعة في هذا النطاق، من المحتمل أن تستجيب لها الأطراف المانحة، على اعتبار أن مصر تملك من اللوجستيات، ما يؤهلها للقيام بهذا الدور بكفاءة، وذلك على النمط الذي جرى في المعسكرات المصرية في غزة.إجمالا، يقف السودان اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن يحظى بالدعم اللازم لتجنب الانهيار، وإما أن يترك ليصبح أكبر كارثة إنسانية “منسية” في عصرنا الحديث، مما يهدد استقرار مصر ودول الإقليم برمته.مصر 360 The post أزمة السودان الإنسانية إلى أين؟ appeared first on صحيفة مداميك.