بقلم: محمد ضياء الدينمنذ إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ الذي قاده البرهان وحميدتي، بدعم الحركة الإسلاموية، حرصت السلطة الإنقلابية على تقديم نفسها بوصفها “تصحيحاً لمسار الإنتقال” وليس إنقلاباً تقليدياً . وقد إستهدف هذا الخطاب التضليلي عدم مواجهة المد الثوري الرافض للإنقلاب داخلياً وإمتصاص الضغوط الخارجية. غير أن التناقض بين الشعارات والممارسات سرعان ما إنكشف، حيث فضّلت سلطة الإنقلاب، بدلاً من إعلان قرارات صريحة تنسف ركائز الثورة علناً، فضّلت سلطة الإنقلاب تجاوز الثورة عملياً مع الإبقاء على مظاهرها الشكلية في ما يشبه بإستراتيجية “التحلل الصامت”.واللافت أن هذا السلوك ليس جديداً على الإسلامويين. فقد سبق للحركة الإسلاموية أن مارسته إبان إنقلابها عام ١٩٨٩، عندما إستولت على السلطة عبر واجهة عسكرية وأنكرت بدايةً أي علاقة لها بالانقلاب. ولمزيد من التمويه وكما هو معروف، جرى إعتقال قائدها التأريخي حسن الترابي، الذي صاغ الخدعة في عبارته الشهيرة مخاطباً قائد الإنقلاب “اذهب أنت للقصر رئيساً وسأذهب أنا للسجن حبيساً”. وهكذا تمكنت الحركة من تثبيت أقدامها في السلطة على كذبة تأسيسية إلى أن تكشّف المستور لمن لم يستوعب طبيعة الإنقلاب في حينه. لذلك ليس مستغرباً أن تكرر ذات الأسلوب تحت غطاء خدعة جديدة تحت عنوان “تصحيح المسار”.وتجسّد الأمثلة الثلاثة التالية، على سبيل المثال لا الحصر، هذا المنهج في إعادة إنتاج التمكين تحت لافتات مضللة.*أولاً: الموقف من الوثيقة الدستورية*رغم أن الوثيقة الدستورية فقدت شرعيتها فعلياً بعد الإنقلاب، إلا أن قادته لم يجرؤوا على إلغائها رسمياً حتى الآن، نظراً لأنها تمثل رمزية مسار الإنتقال الذي يدّعي الانقلابيون أنهم جاؤوا لتصحيحه. وبدلاً من ذلك، لجأوا إلى تعديلها بقرارات أحادية، بحجة منحهم مرونة في التعامل مع الشارع الرافض الإنقلاب من ساعاته الأولى، ومن جهة أخرى ليحتفظوا بغطاء دستوري شكلي لتسهيل مخاطبة المجتمع الدولي. وهي خطوة فضحت جوهر الإنقلاب كسلطة مطلقة تتحرك خلف واجهة لا علاقة لها بالشرعية الدستورية.*ثانياً: الموقف من عودة المؤتمر الوطني*على الرغم من أن قرار حل حزب المؤتمر الوطني لا يزال قائماً رسمياً، إلا أن كوادره عادت عملياً لتولي مفاصل الدولة بعد الإنقلاب مباشرة. هذه العودة الصامتة تنسف خطاب الإنقلاب من أساسه، لأن الاعتراف العلني بعودة الحزب المحلول سيقوّض رواية “تصحيح المسار” ويستفز الشارع الثوري. لذلك رتبت السلطة الإنقلابية لتمكين عناصر النظام البائد تدريجياً تحت ستار إستمرار قرار الحل. نتيجةً لذلك، عادت شخصيات معروفة من الحزب المنحل لتتولى مواقع حساسة في الأجهزة الأمنية والوزارات الإستراتيجية، خاصة بعد الحرب مما يؤكد إعادة إنتاج نفوذ النظام البائد، وإتضح ذلك جلياً بعد إطلاق سراح قياداته وإعادة الممتلكات المستردة منهم لصالح خزانة الدولة.*ثالثاً: الموقف من لجنة إزالة التمكين*أما لجنة إزالة التمكين، التي إرتبطت وجدانياً بثورة ديسمبر، فقد جُمد عملها ونُكّل بقياداتها، غير أنها لم تُلغَ رسمياً. ويعود السبب في ذلك إلى أن حلها العلني سيكشف زيف خطاب “التصحيح” ويظهر الإنقلاب كحامٍ مباشر للنظام القديم. لقد وفّر التجميد مخرجاً للردة على قرارات اللجنة، ورافقت ذلك حملة إنتقامية شملت إعتقالات وبلاغات ضد رموزها، بهدف كسر إرثها الثوري وتصفية الحسابات سياسياً.خلاصة القول، إن خطاب “تصحيح المسار” لم يكن سوى نسخة مُحدَّثة من الخدعة التاريخية التي أتقنتها الحركة الإسلاموية، التقدم نحو السلطة عبر الجيش وإنكار الحقيقة بخطاب قائم على التضليل والغش والخداع . ففي ١٩٨٩ قُدّمت المسرحية باعتقال الترابي لإخفاء الوجه الحقيقي للسلطة، وها هي تُعاد بشكل آخر في ٢٠٢١ تحت شعار “تصحيح المسار”.إنها سياسة “التحلل الصامت” بإمتياز، والتي تقوم على “التملص” عن مكتسبات الثورة خطوة بخطوة، دون إعتراف أو إعلان صريح، وبأقل تكلفة سياسية ممكنة.غير أن المشهد اليوم يختلف تماماً، فالشعب السوداني، وبفعل التجارب المُرة، أصبح أعمق بصيرةً بإستراتيجيات الحركة الإسلاموية ومراوغاتها وعدم مصداقيتها.والأهم من ذلك كشفت الحرب الدائرة منذ أبريل ٢٠٢٣ الأقنعة تماماً، وعَرَّت ما تبقى من شبكات التمكين أفراداً وجماعات وفي كل القطاعات النظامية والمدنية. لذا لم يعد هناك متّسع للمراوغات القديمة في ساحة أصبحت مكشوفة تماماً خاصة بعد الحرب، إذ لم يعد بمقدور أحد أن يخفى حقيقته. اليوم باتت الحقيقة عارية أمام شعب الذي لم يعد ينتظر سوى محاسبة الفاعلين الحقيقيين الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الوضع المأساوي، وبناء دولة تقوم على العدالة والحرية الحقيقية.The post سلطة الإنقلاب واستراتيجية التحلل الصامت والتمويه الإسلاموي appeared first on صحيفة مداميك.